فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة
الفاء لتفريع الإخبار ؛ أي : لمجرد الترتيب اللفظي لا لتفريع حصول ما تضمنته الجملة المعطوفة بها على حصول ما تضمنته ما قبلها ، والمقصود بيان أن
أخذ الولي بالقصاص المستفاد من صور
كتب عليكم القصاص في القتلى ليس واجبا عليه ولكنه حق له فقط ، لئلا يتوهم من قوله : (
كتب عليكم ) أن الأخذ به واجب على ولي القتيل ، والتصدي لتفريع ذكر هذا بعد ذكر حق القصاص ؛ للإيماء إلى أن الأولى بالناس قبول الصلح استبقاء لأواصر أخوة
[ ص: 141 ] الإسلام . قال
الأزهري : هذه آية مشكلة ، وقد فسروها تفسيرا قربوه على قدر أفهام أهل عصرهم ثم أخذ
الأزهري في تفسيرها بما لم يكشف معنى وما أزال إشكالا ، وللمفسرين مناح كثيرة في تفسير ألفاظها ، ذكر
القرطبي خمسة منها ، وذكر في الكشاف تأويلا آخر ، وذكر
الطيبي تأويلين راجعين إلى تأويل الكشاف ، واتفق جميعهم على أن القصد منها الترغيب في المصالحة عن الدماء ، وينبغي ألا نذهب بأفهام الناظر طرائق قددا ، فالقول الفصل أن نقول : إن ماصدق " من " في قوله :
فمن عفي له هو ولي المقتول ، وإن المراد بأخيه هو القاتل ، وصف بأنه أخ تذكيرا بأخوة الإسلام ، وترقيقا لنفس ولي المقتول ؛ لأنه إذا اعتبر القاتل أخا له كان من المروءة ألا يرضى بالقود منه ؛ لأنه كمن رضي بقتل أخيه ، ولقد قال بعض العرب ، قتل أخوه ابنا له عمدا ، فقدم إليه ليقتاد منه فألقى السيف ، وقال :
أقول للنفس تأساء وتعزية إحدى يدي أصابتني ولم ترد كلاهما خلف من فقد صاحبه
هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي
وماصدق ( شيء ) هو عوض الصلح ، ولفظ " شيء " اسم متوغل في التنكير ، دال على نوع ما يصلح له سياق الكلام ، وقد تقدم حسن موقع كلمة " شيء " عند قوله تعالى :
ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ، ومعنى
عفي له من أخيه أنه أعطى العفو ؛ أي : الميسور على القاتل من عوض الصلح . ومن معاني العفو أنه الميسور من المال الذي لا يجحف بباذله ، وقد فسر به العفو من قوله تعالى : (
خذ العفو ) ، وإيثار هذا الفعل ؛ لأنه يؤذن بمراعاة التيسير والسماحة ، وهي من خلق الإسلام ، فهذا تأكيد للترغيب الذي دل عليه قوله : ( من أخيه ) والتعبير عن عوض الدم بشيء ؛ لأن العوض يختلف فقد يعرض على ولي الدم مال من ذهب أو فضة وقد يعرض عليه إبل أو عروض أو مقاصة دماء بين الحيين ؛ إذ ليس العوض في قتل العمد معينا ، كما هو في دية قتل الخطأ .
و ( اتباع ) و ( أداء ) مصدران وقعا عوضا عن فعلين ، والتقدير : فليتبع اتباعا وليؤد أداء ، فعدل عن أن ينصب على المفعولية المطلقة إلى الرفع لإفادة معنى الثبات ، والتحقيق الحاصل بالجملة الاسمية ، كما عدل إلى الرفع في قوله تعالى : (
قال سلام ) بعد قوله : (
قالوا سلاما ) وقد تقدم تطور المصدر الذي أصله مفعول مطلق إلى مصيره مرفوعا عند قوله تعالى : (
الحمد لله ) فنظم الكلام : فاتباع حاصل ممن عفي له من أخيه شيء وأداء
[ ص: 142 ] حاصل من أخيه إليه ، وفي هذا تحريض لمن عفي له على أن يقبل ما عفي له ، وتحريض لأخيه على أداء ما بذله بإحسان .
والاتباع مستعمل في القبول والرضا ؛ أي : فليرض بما عفي له كقول النبيء صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341207وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع .
والضمير المقدر في " اتباع " عائد إلى ( من عفي له ) والضمير المقدر في " أداء " عائد إلى أخيه ، والمعنى : فليرض بما بذل له من الصلح المتيسر ، وليؤد باذل الصلح ما بذله دون مماطلة ولا نقص ، والضمير المجرور باللام والضمير المجرور بإلى عائدان على
فمن عفي له .
ومقصد الآية الترغيب في
الرضا بأخذ العوض عن دم القتيل بدلا من القصاص ؛ لتغيير ما كان أهل الجاهلية يتعيرون به من أخذ الصلح في قتل العمد ، ويعدونه بيعا لدم مولاهم ، كما قال
مرة الفقعسي :
فلا تأخذوا عقلا من القوم إنني أرى العار يبقى والمعاقل تذهب
وقال غيره يذكر قوما لم يقبلوا منه صلحا عن قتيل :
فلو أن حيا يقبل المال فدية لسقنا لهم سيبا من المال مفعما
ولكن أبى قوم أصيب أخوهم رضا العار فاختاروا على اللبن الدما
وهذا كله في العفو على قتل العمد ، وأما قتل الخطأ فإن شأنه الدية عن عاقلة القاتل ، وسيأتي في سورة النساء .
وإطلاق وصف الأخ على المماثل في دين الإسلام تأسيس أصل جاء به القرآن جعل به التوافق في العقيدة كالتوافق في نسب الأخوة ، وحقا فإن التوافق في الدين آصرة نفسانية ، والتوافق في النسب آصرة جسدية ، والروح أشرف من الجسد .
واحتج
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس بهذه الآية على
الخوارج في أن المعصية لا تزيل الإيمان ؛ لأن الله سمى القاتل أخا لولي الدم ، وتلك أخوة الإسلام مع كون القاتل عاصيا .
وقوله : (
بالمعروف ) المعروف : هو الذي تألفه النفوس وتستحسنه ، فهو مما تسر به النفوس ولا تشمئز منه ولا تنكره ، ويقال لضده منكر ، وسيأتي عند قوله تعالى :
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر في سورة آل عمران .
[ ص: 143 ] والباء في قوله : (
بالمعروف ) للملابسة ؛ أي : فاتباع مصاحب للمعروف ؛ أي : رضا وقبول وحسن اقتضاء إن وقع مطل ، وقبول التنجيم إن سأله القاتل .
والأداء : الدفع وإبلاغ الحق ، والمراد به إعطاء مال الصلح ، وذكر متعلقه وهو قوله : ( إليه ) المؤذن بالوصول إليه والانتهاء إليه للإشارة إلى إبلاغ مال الصلح إلى المقتول بأن يذهب به إليه ولا يكلفه الحضور بنفسه لقبضه أو إرسال من يقبضه ، وفيه إشارة إلى أنه لا يمطله ، وزاد ذلك تقريرا بقوله : (
بإحسان ) أي : دون غضب ولا كلام كريه أو جفاء معاملة .
وقوله :
ذلك تخفيف من ربكم إشارة إلى الحكم المذكور وهو قبول العفو وإحسان الأداء والعدول عن القصاص ، تخفيف من الله على الناس ، فهو رحمة منه أي : أثر رحمته ؛ إذ التخفيف في الحكم أثر الرحمة ،
فالأخذ بالقصاص عدل ، والأخذ بالعفو رحمة .
ولما كانت مشروعية القصاص كافية في تحقيق مقصد الشريعة في شرع القصاص من ازدجار الناس عن قتل النفوس وتحقيق حفظ حق المقتول بكون الخيرة للولي ، كان الإذن في العفو إن تراضيا عليه - رحمة من الله بالجانبين ، فالعدل مقدم والرحمة تأتي بعده .
قيل : إن الآية أشارت إلى
ما كان في الشريعة الإسرائيلية من تعيين القصاص من قاتل العمد دون العفو ودون الدية ، كما ذكره كثير من المفسرين ، وهو في صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وهو ظاهر ما في سفر الخروج الإصحاح الثالث : ( من ضرب إنسانا فمات يقتل قتلا ، ولكن الذي لم يتعمد بل أوقع الله في يده ، فأنا أجعل لك مكانا يهرب إليه ، وإذا بغى إنسان على صاحبه ليقتله بغدر فمن عند مذبحي تأخذه للموت ) وقال
القرطبي : إن حكم الإنجيل العفو مطلقا ، والظاهر أن هذا غير ثابت في شريعة
عيسى ؛ لأنه ما حكى الله عنه إلا أنه قال
ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم فلعله مما أخذه علماء المسيحية من أمره بالعفو والتسامح ، لكنه حكم تنزه شرائع الله عنه لإفضائه إلى انخرام نظام العالم ، وشتان بين حال الجاني بالقتل في الإسلام يتوقع القصاص ويضع حياته في يد ولي دم المقتول ، فلا يدري أيقبل الصلح أم لا يقبل ، وبين ما لو كان واثقا بأنه لا قصاص عليه ، فإن ذلك يجرئه على قتل عدوه وخصمه .