[ ص: 276 ] ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز
اعتراض بين جملة أذن للذين يقاتلون إلخ وبين قوله
الذين إن مكناهم في الأرض إلخ . فلما تضمنت جملة (
أذن للذين يقاتلون ) إلخ . . . الإذن للمسلمين بدفاع المشركين عنهم أتبع ذلك ببيان الحكمة في هذا الإذن بالدفاع ، مع التنويه بهذا الدفاع ، والمتولين له بأنه دفاع عن الحق والدين ينتفع به جميع أهل أديان التوحيد من
اليهود والنصارى والمسلمين ، وليس هو دفاعا لنفع المسلمين خاصة . والواو في قوله
ولولا دفاع الله الناس إلى آخره . اعتراضية وتسمى واو الاستئناف . ومفاد هذه الجملة تعليل مضمون جملة أذن للذين يقاتلون إلخ .
و ( لولا ) حرف امتناع لوجود ، أي حرف يدل على امتناع جوابه ، أي انتفائه لأجل وجود شرطه ، أي عند تحقيق مضمون جملة شرطه فهو حرف يقتضي جملتين . والمعنى : لولا دفاع الناس عن مواضع عبادة المسلمين لانتصر المشركون ولتجاوزوا فيه المسلمين إلى الاعتداء على ما يجاور بلادهم من أهل الملل الأخرى المناوئة لملة الشرك ولهدموا معابدهم من صوامع ، وبيع ، وصلوات ، ومساجد ، للأديان المخالفة للشرك . فذكر الصوامع ، والبيع ، إدماج لينتبهوا إلى تأييد المسلمين فالتعريف في ( الناس ) تعريف العهد ، أي الناس الذين يتقاتلون وهم المسلمون ومشركو أهل
مكة .
[ ص: 277 ] ويجوز أن يكون المراد : لولا ما سبق قبل الإسلام من إذن الله لأمم التوحيد بقتال أهل الشرك كما قاتل
داود جالوت . وكما تغلب
سليمان على ملكة
سبأ لمحق المشركون معالم التوحيد كما محق "
بختنصر " هيكل
سليمان فتكون هذه الجملة تذييلا لجملة
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، أي أذن للمسلمين بالقتال كما أذن لأمم قبلهم لكيلا يطغى عليهم المشركون كما طغوا على من قبلهم حين لم يأذن الله لهم بالقتال ، فالتعريف في ( الناس ) تعريف الجنس . وإضافة الدفاع إلى الله إسناد مجازي عقلي لأنه إذن للناس أن يدفعوا عن معابدهم فكان إذن الله سبب الدفع . وهذا يهيب بأهل الأديان إلى التألب على مقاومة أهل الشرك .
وقرأ
نافع ، وأبو جعفر ، ويعقوب ( دفاع ) . وقرأ الباقون ( دفع ) بفتح الدال وبدون ألف . و ( بعضهم ) بدل من ( الناس ) بدل بعض . و ( ببعض ) متعلق بـ ( دفاع ) والباء للآلة .
والهدم : تقويض البناء وتسقيطه .
وقرأ
نافع ، وابن كثير ، وأبو جعفر (
لهدمت ) بتخفيف الدال . وقرأه الباقون بتشديد الدال للمبالغة في الهدم ، أي ( لهدمت ) هدما ناشئا عن غيظ بحيث لا يبقون لها أثرا .
والصوامع : جمع صومعة بوزن فوعلة ، وهي بناء مستطيل مرتفع يصعد إليه بدرج وبأعلاه بيت ، كان الرهبان يتخذونه للعبادة ليكونوا بعداء عن مشاغلة الناس إياهم ، وكانوا يوقدون به مصابيح للإعانة على السهر للعبادة ولإضاءة الطريق للمارين . من أجل ذلك سميت الصومعة المنارة . قال
امرؤ القيس :
تضيء الظلام بالعشي كأنها منارة ممسى راهب متبتل
[ ص: 278 ] والبيع جمع : بيعة - بكسر الباء وسكون التحتية - مكان عبادة النصارى ولا يعرف أصل اشتقاقها . ولعلها معربة عن لغة أخرى .
والصلوات جمع : صلاة وهي هنا مراد بها كنائس
اليهود معربة عن كلمة ( صلوثا ) بالمثلثة في آخره بعدها ألف . فلما عربت جعلوا مكان المثلثة مثناة فوقية وجمعوها كذلك .
وعن
مجاهد .
والجحدري ، وأبي العالية ، وأبي رجاء أنهم قرءوها هنا ( وصلواث ) بمثلثة في آخره . وقال
ابن عطية : قرأ
عكرمة .
ومجاهد ( صلويثا ) بكسر الصاد وسكون اللام وكسر الواو وقصر الألف بعد الثاء أي المثلثة كما قال
القرطبي وهذه المادة قد فاتت أهل اللغة وهي غفلة عجيبة .
والمساجد : اسم لمحل السجود من كل موضع عبادة ليس من الأنواع الثلاثة المذكورة قبله وقت نزول هذه الآية فتكون الآية نزلت في ابتداء هجرة المسلمين إلى
المدينة حين بنوا مسجد
قباء ومسجد
المدينة . وجملة (
يذكر فيها اسم الله كثيرا ) صفة والغالب في الصفة الواردة بعد جمل متعاطفة فيها أن ترجع إلى ما في تلك الجمل من الموصوف بالصفة . فلذلك قيل برجوع صفة (
يذكر فيها اسم الله ) إلى صوامع ، وبيع ، وصلوات ، ومساجد للأربعة المذكورات قبلها وهي معاد ضمير ( فيها ) .
وفائدة هذا الوصف الإيماء إلى أن سبب هدمها أنها يذكر فيها اسم الله كثيرا ، أي ولا تذكر أسماء أصنام أهل الشرك فإنهم لما أخرجوا المسلمين بلا سبب إلا أنهم يذكرون اسم الله فيقولون ربنا الله . لمحو ذكر اسم الله من بلدهم لا جرم أنهم يهدمون المواضع المجعولة لذكر اسم الله كثيرا . أي دون ذكر الأصنام . فالكثرة مستعملة في الدوام
[ ص: 279 ] لاستغراق الأزمنة ، وفي هذا إيماء إلى أن في هذه المواضع فائدة دينية وهي ذكر اسم الله .
قال
ابن خويز منداد من أئمة المالكية من أهل أواخر القرن الرابع تضمنت هذه الآية المنع من
هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نارهم اهـ .
قلت : أما بيوت النار فلا تتضمن هذه الآية منع هدمها فإنها لا يذكر فيها اسم الله وإنما منع هدمها عقد الذمة الذي ينعقد بين أهلها وبين المسلمين . وقيل الصفة راجعة إلى مساجد خاصة .
وتقديم الصوامع في الذكر على ما بعده لأن صوامع الرهبان كانت أكثر في بلاد العرب من غيرها ، وكانت أشهر عندهم ، لأنهم كانوا يهتدون بأضوائها في أسفارهم ويأوون إليها . وتعقيبها بذكر البيع للمناسبة إذ هي معابد النصارى مثل الصوامع . وأما ذكر الصلوات بعدهما فلأنه قد تهيأ المقام لذكرها ، وتأخير المساجد لأنها أعم ، وشأن العموم أن يعقب به الخصوص إكمالا للفائدة . وقوله
ولينصرن الله من ينصره عطف على جملة (
ولولا دفاع الله الناس ) ، أي أمر الله المسلمين بالدفاع عن دينهم . وضمن لهم النصر في ذلك الدفاع لأنهم بدفاعهم ينصرون دين الله ، فكأنهم نصروا الله . ولذلك أكد الجملة بلام القسم ونون التوكيد . وهذه الجملة تذييل لما فيها من العموم الشامل للمسلمين الذين أخرجهم المشركون . وجملة
إن الله لقوي عزيز تعليل لجملة
ولينصرن الله من ينصره ، أي كان نصرهم مضمونا لأن ناصرهم قدير على ذلك بالقوة والعزة . والقوة مستعملة في القدرة . والعزة هنا حقيقة لأن العزة هي المنعة ، أي عدم تسلط غير صاحبها على صاحبها .
[ ص: 280 ] بدل من
الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق وما بينهما اعتراض . فالمراد من
الذين إن مكناهم في الأرض المهاجرون فهو ثناء على المهاجرين وشهادة لهم بكمال دينهم . وعن
عثمان : هذا والله ثناء قبل بلاء . أي قبل اختبار . أي فهو من الإخبار بالغيب الذي علمه الله من حالهم . ومعنى
إن مكناهم في الأرض أي بالنصر الذي وعدناهم في قوله
وإن الله على نصرهم لقدير .