ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور
اسم الإشارة للفصل بين الكلامين لفتا لأذهان السامعين إلى ما سيجيء من الكلام لأن ما بعده غير صالح لأن يكون خبرا عن اسم الإشارة . وقد تقدم نظيره عند قوله
ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه . وجملة
ومن عاقب إلخ ، معطوفة على جملة
والذين هاجروا في سبيل الله الآية .
[ ص: 312 ] والغرض منها
التهيئة للجهاد والوعد بالنصر الذي أشير إليه سابقا بقوله تعالى
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير إلى قوله
ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ، فإنه قد جاء معترضا في خلال النعي على تكذيب المكذبين وكفرهم النعم ، فأكمل الغرض الأول بما فيه من انتقالات ، ثم عطف الكلام إلى الغرض الذي جرت منه لمحة فعاد الكلام هنا إلى الوعد بنصر الله القوم المعتدى عليهم كما وعدهم بأن يدخلهم في الآخرة مدخلا يرضونه .
وجيء بإشارة الفصل للتنبيه على أهمية ما بعده . وماصدق ( من ) الموصولة العموم لقوله فيما سلف
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، فنبه على أن القتال المأذون فيه هو قتال جزاء على اعتداء سابق كما دل عليه أيضا قوله
بأنهم ظلموا وتغيير أسلوب الجمع الذي في قوله
أذن للذين يقاتلون إلى أسلوب الإفراد في قوله
ومن عاقب للإشارة إلى إرادة العموم مكن هذا الكلام ليكون بمنزلة القاعدة الكلية لسنة من سنن الله تعالى في الأمم .
ولما أتى في الصلة هنا بفعل ( عاقب ) مع قصد شمول عموم الصلة للذين أذن لهم بأنهم ظلموا علم السامع أن القتال المأذون لهم به قتال جزاء على ظلم سابق . وفي ذلك تحديد لقانون العقاب أن يكون مماثلا للعدوان المجزي عليه ، أي أن لا يكون أشد منه .
وسمي
اعتداء المشركين على المؤمنين عقابا في قوله تعالى
بمثل ما عوقب به لأن الذي دفع المعتدين إلى الاعتداء قصد العقاب على خروجهم عن دين الشرك ونبذ عبادة أصنامهم . ويعلم أن ذلك العقاب
[ ص: 313 ] ظلم بقوله فيما مضى
الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله . ومعنى
بمثل ما عوقب به المماثلة في الجنس فإن المشركين آذوا المسلمين وأرغموهم على مغادرة موطنهم فيكون عقابهم على ذلك بإخراج من يمكنهم أن يخرجوه من ذلك الوطن ، ولا يستطيعون ذلك إلا بالجهاد لأن المشركين كانوا أهل كثرة وكانوا مستعصمين ببلدهم فإلجاء من يمكن إلجاؤه إلى مفارقة وطنه ، إما بالقتال فهو إخراج كامل ، أو بالأسر : و ( ثم ) من قوله
ثم بغي عليه عطف على جملة
ومن عاقب بمثل ما عوقب به ، ف ( ثم ) للتراخي الرتبي فإن البغي عليه أهم من كونه عاقب بمثل ما عوقب به إذ كان مبدوءا بالظلم كما يقال البادئ أظلم . فكان المشركون محقوقين بأن يعاقبوا لأنهم بغوا على المسلمين . ومعنى الآية في معنى قوله
ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة . وكان هذا شرعا لأصول الدفاع عن البيضة ، وأما آيات
الترغيب في العفو فليس هذا مقام تنزيلها وإنما هي في شرع معاملات الأمة بعضها مع بعض ، وقد أكد لهم الله نصره إن هم امتثلوا لما أذنوا به وعاقبوا بمثل ما عوقبوا به . وللمفسرين في تقرير هذه الآية تكلفات تنبئ عن حيرة في تلئيم معانيها .
وجملة
إن الله لعفو غفور تعليل للاقتصار على
الإذن في العقاب بالمماثلة في قوله
ومن عاقب بمثل ما عوقب به دون الزيادة في الانتقام مع أن البادئ أظلم بأن عفو الله ومغفرته لخلقه قضيا بحكمته أن لا يأذن إلا بمماثلة العقاب للذنب لأن ذلك هو أوفق بالحق . ومما يؤثر عن كسرى أنه قيل له : بم دام ملككم ؟ فقال :
[ ص: 314 ] لأننا نعاقب على قدر الذنب لا على قدر الغضب ، فليس ذكر وصفي ( عفو غفور ) إيماء إلى الترغيب في العفو عن المشركين . ويجوز أن يكون تعليلا للوعد بجزاء المهاجرين اتباعا للتعليل في قوله
وإن الله لعليم حليم لأن الكلام مستمر في شأنهم .