ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير
ليس اسم الإشارة مستعملا في الفصل بين الكلامين مثل شبيهه الذي قبله ، بل الإشارة هنا إلى الكلام السابق الدال على تكفل النصر ، فإن النصر يقتضي تغليب أحد الضدين على ضده وإقحام الجيش في الجيش الآخر في الملحمة ، فضرب له مثلا بتغليب مدة النهار على مدة الليل في بعض السنة ، وتغليب مدة الليل على مدة النهار في بعضها ، لما تقرر من اشتهار التضاد بين الليل والنهار ، أي الظلمة والنور . وقريب منها استعارة التلبيس للإقحام في الحرب في قول
المرار السلمي :
وكتيبة لبستها بكتيبة حتى إذا التبست نفضت لها يدي
فخبر اسم الإشارة هنا هو قوله
بأن الله يولج الليل إلخ . ويجوز أن يكون اسم الإشارة تكريرا لشبيهه السابق لقصر توكيده لأنه متصل به لأن جملة
بأن الله يولج الليل في النهار إلخ ، مرتبطة بجملة
ومن عاقب بمثل ما عوقب به إلخ . ولذلك يصح جعل
بأن الله يولج الليل في النهار إلخ متعلقا بقوله
لينصرنه الله .
والإيلاج : الإدخال . مثل به اختفاء ظلام الليل عند ظهور نور النهار وعكسه تشبيها لذلك التصيير بإدخال جسم في جسم آخر ،
[ ص: 315 ] فإيلاج الليل في النهار : غشيان ضوء النهار على ظلمة الليل . وإيلاج النهار في الليل : غشيان ظلمة الليل على ما كان من ضوء النهار . فالمولج هو المختفي . فإيلاج الليل انقضاؤه . واستعارة الإيلاج لذلك استعارة بديعة لأن تقلص ظلمة الليل يحصل تدريجا . وكذلك تقلص ضوء النهار يحصل تدريجا ، فأشبه ذلك إيلاج شيء في شيء إذ يبدو داخلا فيه شيئا فشيئا .
والباء للسببية . أي لا عجب في النصر الموعود به المسلمون على الكافرين مع قلة المسلمين ، فإن القادر على تغليب النهار على الليل حينا بعد أن كان أمرهما على العكس حينا آخر قادر على تغليب الضعيف على القوي ، فصار حاصل المعنى : ذلك بأن الله قادر على نصرهم .
والجمع بين ذكر إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل للإيماء إلى تقلب أحوال الزمان فقد يصير المغلوب غالبا ويصير ذلك الغالب مغلوبا . مع ما فيه من التنبيه على تمام القدرة بحيث تتعلق بالأفعال المتضادة ولا تلزم طريقة واحدة كقدرة الصناع من البشر . وفيه إدماج التنبيه بأن العذاب الذي استبطأه المشركون منوط بحلول أجله ، وما الأجل إلا إيلاج ليل في نهار ونهار في ليل .
وفي ذكر الليل والنهار في هذا المقام إدماج تشبيه الكفر بالليل والإسلام بالنهار ؛ لأن
الكفر ضلالة اعتقاد ، فصاحبه مثل الذي يمشي في ظلمة ، ولأن
الإيمان نور يتجلى به الحق والاعتقاد الصحيح ، فصاحبه كالذي يمشي في النهار . ففي هذا إيماء إلى أن الإيلاج المقصود هو ظهور النهار بعد ظلمة الليل . أي ظهور الدين الحق بعد ظلمة الإشراك . ولذلك ابتدئ في الآية بإيلاج الليل في النهار ، أي دخول ظلمة الليل تحت ضوء النهار .
[ ص: 316 ] وقوله
ويولج النهار في الليل تتميم لإظهار صلاحية القدرة الإلهية . وتقدم في سورة آل عمران
تولج الليل في النهار . وعطف
وأن الله سميع بصير على السبب للإشارة إلى
علم الله بالأحوال كلها فهو ينصر من ينصره بعلمه وحكمته ويعد بالنصر من علم أنه ناصره لا محالة ، فلا يصدر منه شيء إلا عن حكمة .