[ ص: 321 ] ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السما أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم
هذا من نسق التذكير بنعم الله واقع موقع قوله
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة ، فهو من عداد الامتنان والاستدلال ، فكان كالتكرير لغرض ، ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف . وهذا تذكير بنعمة تسخير الحيوان وغيره . وفيه إدماج الاستدلال على انفراده بالتسخير . والتقدير : فهو الرب الحق . وجملة
ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض مستأنفة كجملة
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء . والخطاب هنا والاستفهام كلاهما كما في الآية السابقة .
والتسخير : تسهيل الانتفاع بدون مانع وهو يؤذن بصعوبة الانتفاع لولا ذلك التسخير . وأصله تسهيل الانتفاع بما فيه إرادة التمنع مثل تسخير الخادم وتسهيل استخدام الحيوان الداجن من الخيل ، والإبل والبقر والغنم ونحوها ، بأن جعل الله فيها طبع الخوف من الإنسان مع تهيئتها للإلف بالإنسان . ثم أطلق على تسهيل الانتفاع بما في طبعه أو في حاله ما يعذر الانتفاع به لولا ما ألهم الله إليه الإنسان من وسائل التغلب عليها بتعرف نواميسه وأحواله وحركاته وأوقات ظهوره ، وبالاحتيال على تملكه مثل صيد الوحش ومغاصات اللؤلؤ والمرجان ، ومثل آلات الحفر والنقر للمعادن ، ومثل التشكيل في صنع الفلك والعجل . ومثل التركيب والتصهير في صنع البواخر والمزجيات والصياغة . ومثل الإرشاد إلى ضبط أحوال المخلوقات
[ ص: 322 ] العظيمة من الشمس والقمر والكواكب والأنهار والأودية والأنواء والليل والنهار ، باعتبار كون تلك الأحوال تظهر على وجه الأرض ، وما لا يحصى مما ينتفع به الإنسان مما على الأرض فكل ذلك داخل في معنى التسخير .
وقد تقدم القول في التسخير آنفا في هذه السورة . وتقدم في سورة الأعراف وسورة إبراهيم وغيرهما . وفي كلامنا هنا زيادة إيضاح لمعنى التسخير . وجملة
تجري في البحر بأمره في موضع الحال من ( الفلك ) . وإنما خص هذا بالذكر لأن ذلك الجري في البحر هو مظهر التسخير إذ لولا الإلهام إلى صنعها على الصفة المعلومة لكان حظها من البحر الغرق . وقوله ( بأمره ) هو أمر التكوين إذ جعل البحر صالحا لحملها ، وأوحى إلى
نوح - عليه السلام - معرفة صنعها ، ثم تتابع إلهام الصناع لزيادة إتقانها .
والإمساك : الشد ، وهو ضد الإلقاء . وقد ضمن معنى المنع هنا وفي قوله تعالى
إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا فيقدر حرف جر لتعدية فعل الإمساك بعد هذا التضمين فيقدر ( عن ) أو ( من ) . ومناسبة عطف إمساك السماوات على تسخير ما في الأرض وتسخير الفلك أن إمساك السماء عن أن تقع على الأرض ضرب من التسخير لما في عظمة المخلوقات السماوية من مقتضيات تغلبها على المخلوقات الأرضية وحطمها إياها لولا ما قدر الله تعالى لكل نوع منها من سنن ونظم تمنع من تسلط بعضها على بعض ، كما أشار إليه قوله تعالى
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون . فكما سخر الله للناس ما ظهر على وجه
[ ص: 323 ] الأرض من موجودات مع ما في طبع كثير منها من مقتضيات إتلاف الإنسان ، وكما سخر لهم الأحوال التي تبدو للناس من مظاهر الأفق مع كثرتها وسعتها وتباعدها ، ومع ما في تلك الأحوال من مقتضيات تعذر الضبط ، كذلك سخر لمصلحة الناس ما في السماوات من الموجودات بالإمساك المنظم المنوط بما قدره الله كما أشار إليه قوله ( إلا يإذنه ) ، أي تقديره . ولفظ ( السماء ) في قوله ( ويمسك السماء ) يجوز أن يكون بمعنى ما قابل الأرض في اصطلاح الناس ، فيكون كلا شاملا للعوالم العلوية كلها التي لا نحيط بها علما كالكواكب السيارة وما الله أعلم به وما يكشفه للناس في متعاقب الأزمان ، ويكون وقوعها على الأرض بمعنى الخرور والسقوط ، فيكون المعنى أن الله بتدبير علمه وقدرته جعل للسماء نظاما يمنعها من الخرور على الأرض ، فيكون قوله ( ويمسك السماء ) امتنانا على الناس بالسلامة مما يفسد حياتهم ، ويكون قوله ( إلا بإذنه ) احتراسا جمعا بين الامتنان والتخويف ، ويكون الناس شاكرين مستزيدين من النعم خائفين من غضب ربهم أن يأذن لبعض السماء بالوقوع على الأرض . وقد أشكل الاستثناء بقوله ( إلا بإذنه ) فقيل في دفع الإشكال : إن معناه إلا يوم القيامة يأذن الله لها في الوقوع على الأرض . ولكن لم يرد في الآثار أنه يقع سقوط السماء وإنما ورد تشقق السماء وانفطارها . وفيما جعلنا ذلك احتراسا دفعا للإشكال لأن الاحتراس أمر فرضي فلا يقتضي الاستثناء وقوع المستثنى . ويجوز أن يكون لفظ ( السماء ) بمعنى المطر ، كقول
معاوية بن مالك :
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
[ ص: 324 ] وقول
زيد بن خالد الجهني في حديث الموطأ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10342192صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية على إثر سماء كانت من الليل ، فيكون معنى الآية : أن الله بتقديره جعل لنزول المطر على الأرض مقادير قدر أسبابها ، وأنه لو استمر نزول المطر على الأرض لتضرر الناس فكان في إمساك نزوله باطراد منه على الناس ، وكان تقدير نزوله عند تكوين الله إياه منة أيضا . فيكون هذا مشتملا على ذكر نعمتين : نعمة الغيث ، ونعمة السلامة من طغيان المياه . ويجوز أن يكون لفظ السماء قد أطلق على جميع الموجودات العلوية التي يشملها لفظ ( السماء ) الذي هو ما علا الأرض فأطلق على ما يحويه ، كما أطلق لفظ الأرض على سكانها في قوله تعالى
أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها . فالله يمسك ما في السماوات من الشهب ومن كريات الأثير والزمهرير عن اختراق كرة الهواء ، ويمسك ما فيها من القوى كالمطر والبرد والثلج والصواعق من الوقوع على الأرض والتحكك بها إلا بإذن الله فيما اعتاد الناس إذنه به من وقوع المطر والثلج والصواعق والشهب وما لم يعتادوه من تساقط الكواكب . فيكون موقع
ويمسك السماء بعد قوله تعالى
والفلك تجري في البحر بأمره كموقع قوله تعالى
الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه في سورة الجاثية . ويكون في قوله ( إلا بإذنه ) إدماج بين الامتنان والتخويف : فإن من الإذن بالوقوع على الأرض ما هو مرغوب للناس ، ومنه ما هو مكروه . وهذا المحمل الثالث أجمع لما في المحملين الآخرين وأوجز ، فهو لذلك أنسب بالإعجاز .
[ ص: 325 ] والاستثناء في قوله إلا بإذنه استثناء من عموم متعلقات فعل ( يمسك ) وملابسات مفعوله وهو كلمة ( السماء ) على اختلاف محامله ، أي يمنع ما في السماء من الوقوع على الأرض في جميع أحواله إلا وقوعا ملابسا لإذن من الله . هذا ما ظهر لي في معنى الآية .
وقال
ابن عطية : يحتمل أن يعود قوله إلا بإذنه على الإمساك لأن الكلام يقتضي بغير عمد أي يدل بدلالة الاقتضاء على تقدير هذا المتعلق أخذا من قوله تعالى
بغير عمد ترونها ونحوه فكأنه أراد : إلا بإذنه فيمسكها اهـ . يريد أن حرف الاستثناء قرينة على المحذوف .
والإذن . حقيقته : قول يطلب به فعل شيء . واستعير هنا للمشيئة والتكوين ، وهما متعلق الإرادة والقدرة .
وقد استوعبت الآية العوالم الثلاثة : البر ، والبحر ، والجو .
وموقع جملة
إن الله بالناس لرءوف رحيم موقع التعليل للتسخير والإمساك باعتبار الاستثناء لأن في جميع ذلك رأفة بالناس بتيسير منافعهم الذي في ضمنه دفع الضر عنهم .
والرءوف : صيغة مبالغة من الرأفة أو صفة مشبهة . وهي صفة تقتضي صرف الضر .
والرحيم : وصف من الرحمة . وهي صفة تقتضي النفع لمحتاجه . وقد تتعاقب الصفتان ، والجمع بينهما يفيد ما تختص به كل صفة منهما ويؤكد ما تجتمعان عليه .