فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر
تعقيب لحكم العزيمة بحكم الرخصة ، فالفاء لتعقيب الأخبار لا للتفريع ، وتقديمه هنا قبل ذكر بقية تقدير الصوم تعجيل بتطمين نفوس السامعين ، لئلا يظنوا وجوب الصوم عليهم في كل حال .
والمريض من قام به المرض ، وهو انحراف المزاج عن حد الاعتدال الطبيعي بحيث تثور في الجسد حمى أو وجع أو فشل .
وقد اختلف الفقهاء في تحديد
المرض الموجب للفطر ، فأما المرض الغالب الذي لا يستطيع المريض معه الصوم بحال بحيث يخشى الهلاك أو مقاربته ، فلا خلاف بينهم في أنه مبيح للفطر بل يوجب الفطر ، وأما المرض الذي دون ذلك ، فقد اختلفوا في مقداره فذهب محققو الفقهاء إلى أنه المرض الذي تحصل به مع الصيام مشقة زائدة على مشقة الصوم للصحيح من الجوع والعطش المعتادين ، بحيث يسبب له أوجاعا أو ضعفا منهكا أو تعاوده به أمراض ساكنة أو يزيد في انحرافه إلى حد المرض أو يخاف تمادي المرض بسببه . وهذا قول
مالك وأبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي على تفاوت بينهم في التعبير ، وأعدل العبارات ما نقل عن
مالك ، لأن الله أطلق المرض ولم يقيده ، وقد علمنا أنه ما أباح الفطر إلا لأن لذلك المرض تأثيرا في الصائم ، ويكشف ضابط ذلك قول
القرافي في الفرق الرابع عشر ، إذ قال : إن المشاق قسمان : قسم ضعيف لا تنفك عنه تلك العبادة كالوضوء والغسل في زمن البرد وكالصوم ، وكالمخاطرة بالنفس في الجهاد ، وقسم هو ما تنفك عنه العبادة ، وهذا أنواع : نوع لا تأثير له في العبادة
[ ص: 163 ] كوجع إصبع ، فإن الصوم لا يزيد وجع الإصبع ، وهذا لا التفات إليه ، ونوع له تأثير شديد مع العبادة كالخوف على النفس والأعضاء والمنافع ، وهذا يوجب سقوط تلك العبادة ، ونوع يقرب من هذا فيوجب ما يوجبه .
وذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16972ابن سيرين وعطاء :
nindex.php?page=showalam&ids=12070والبخاري إلى أن المرض وهو الوجع والاعتلال يسوغ الفطر ولو لم يكن الصوم مؤثرا فيه شدة أو زيادة ؛ لأن الله تعالى جعل المرض سبب الفطر ، كما جعل السفر سبب الفطر من غير أن تدعو إلى الفطر ضرورة كما في السفر ، يريدون أن العلة هي مظنة المشقة الزائدة غالبا ، قيل : دخل بعضهم على
nindex.php?page=showalam&ids=16972ابن سيرين في نهار رمضان وهو يأكل فلما فرغ قال : إنه وجعتني إصبعي هذه فأفطرت ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري قال : اعتللت
بنيسابور علة خفيفة في رمضان فعادني
nindex.php?page=showalam&ids=12418إسحاق ابن راهويه في نفر من أصحابه فقال لي : أفطرت يا
أبا عبد الله قلت : نعم أخبرنا
عبدان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16418ابن المبارك ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج قال : قلت
لعطاء : من أي المرض أفطر ؟ قال : من أي مرض كان ، كما قال الله تعالى :
فمن كان منكم مريضا وقيل : إذا لم يقدر المريض على الصلاة قائما أفطر ، وإنما هذه حالة خاصة تصلح مثالا ولا تكون شرطا ، وعزي إلى
الحسن والنخعي ولا يخفى ضعفه ؛ إذ أين القيام في الصلاة من الإفطار في الصيام ، وفي هذا الخلاف مجال للنظر في تحديد مدى الانحراف والمرض المسوغين إفطار الصائم ، فعلى الفقيه الإحاطة بكل ذلك ونقر به من المشقة الحاصلة للمسافر وللمرأة الحائض .
وقوله :
أو على سفر أي : أو كان بحالة السفر وأصل ( على ) الدلالة على الاستعلاء ثم استعملت مجازا في التمكن كما تقدم في قوله تعالى :
على هدى من ربهم ثم شاع في كلام العرب أن يقولوا : فلان على سفر ؛ أي : مسافر ليكون نصا في المتلبس ، لأن اسم الفاعل يحتمل الاستقبال ، فلا يقولون على سفر للعازم عليه وأما قول . . . . .
ماذا على البدر المحجب لو سفر إن المعذب في هواه على سفر
أراد أنه على وشك الممات فخطأ من أخطاء المولدين في العربية ، فنبه الله تعالى بهذا اللفظ المستعمل في التلبس بالفعل ، على أن
المسافر لا يفطر حتى يأخذ في السير في السفر دون مجرد النية ، والمسألة مختلف فيها ، فعن
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك أنه أراد السفر في رمضان فرحلت دابته ولبس ثياب السفر وقد تقارب غروب الشمس فدعا بطعام فأكل منه ثم ركب ، وقال : هذه السنة ، رواه
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري ، وقال جماعة : إذا أصبح مقيما ثم سافر
[ ص: 164 ] بعد ذلك فلا يفطر يومه ذلك وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري ،
ومالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي وأبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبي ثور ، فإن أفطر فعليه القضاء دون الكفارة ، وبالغ بعض المالكية فقال : عليه الكفارة ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=13469ابن كنانة والمخزومي ، ومن العجب اختيار
ابن العربي إياه ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13332أبو عمر بن عبد البر : ليس هذا بشيء لأن الله أباح له الفطر بنص الكتاب ، ولقد أجاد
أبو عمر ، وقال
أحمد وإسحاق nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي : يفطر إذا سافر بعد الصبح ورووه عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر وهو الصحيح الذي يشهد له حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في صحيحي
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم nindex.php?page=hadith&LINKID=10341223خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، فصام حتى بلغ عسفان ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه ، فأفطر حتى قدم مكة ، قال
القرطبي : وهذا نص في الباب فسقط ما يخالفه .
وإنما قال تعالى :
فعدة من أيام أخر ولم يقل : فصيام أيام أخر ، تنصيصا على وجوب
صوم أيام بعدد أيام الفطر في المرض والسفر ؛ إذ العدد لا يكون إلا على مقدار مماثل .
فمن ؛ للتبعيض إن اعتبر " أيام " أعم من أيام العدة ؛ أي : من أيام الدهر أو السنة ، أو تكون " من " تمييز " عدة " أي : عدة هي أيام ، مثل قوله :
بخمسة آلاف من الملائكة ، ووصف الأيام بأخر ، وهو جمع الأخرى اعتبارا بتأنيث الجمع ؛ إذ كل جمع مؤنث ، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى آنفا :
أياما معدودات قال
أبو حيان : واختير في الوصف صيغة الجمع دون أن يقال أخرى لئلا يظن أنه وصف لعدة ، وفيه نظر ؛ لأن هذا الظن لا يوقع في لبس ؛ لأن عدة الأيام هي أيام فلا يعتنى بدفع هذا الظن ، فالظاهر أن العدول عن أخرى لمراعاة صيغة الجمع في الموصوف مع طلب خفة اللفظ .
ولفظ ( أخر ) ممنوع من الصرف في كلام العرب . وعلل جمهور النحويين منعه من الصرف على أصولهم بأن فيه الوصفية والعدل ، أما الوصفية فظاهرة وأما العدل فقالوا : لما كان جمع آخر ، ومفرده بصيغة اسم التفضيل ، وكان غير معرف باللام كان حقه أن يلزم الإفراد والتذكير جريا على سنن أصله ، وهو اسم التفضيل إذا جرد من التعريف باللام ومن الإضافة إلى المعرفة - أنه يلزم الإفراد والتذكير ، فلما نطق به العرب مطابقا لموصوفه في التثنية والجمع علمنا أنهم عدلوا به عن أصله ، والعدول عن الأصل يوجب الثقل على اللسان ؛ لأنه غير معتاد الاستعمال ، فخففوه لمنعه من الصرف ، وكأنهم لم يفعلوا ذلك في تثنيته وجمعه بالألف والنون لقلة وقوعهما ، وفيه ما فيه .
[ ص: 165 ] ولم تبين الآية صفة
قضاء صوم رمضان ، فأطلقت "
عدة من أيام أخر " ، فلم تبين أتكون متتابعة أم يجوز تفريقها ، ولا وجوب المبادرة بها أو جواز تأخيرها ، ولا وجوب الكفارة على الفطر متعمدا في بعض أيام القضاء ، ويتجاذب النظر في هذه الثلاثة دليل التمسك بالإطلاق لعدم وجود ما يقيده كما يتمسك بالعام إذا لم يظهر المخصص ، ودليل أن الأصل في قضاء العبادة أن يكون على صفة العبادة المقضية .
فأما
حكم تتابع أيام القضاء ، فروى
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني بسند صحيح قالت
عائشة نزلت ( فعدة من أيام أخر متتابعات ) فسقطت " متتابعات " ، تريد : نسخت ، وهو قول الأئمة الأربعة ، وبه قال من الصحابة
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة ،
وأبو عبيدة ،
nindex.php?page=showalam&ids=32ومعاذ بن جبل ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ، وتلك رخصة من الله ، ولأجل التنبيه عليها أطلق قوله :
من أيام أخر ولم يقيد بالتتابع كما قال في كفارة الظهار ، وفي كفارة قتل الخطأ .
فلذلك ألغى الجمهور إعمال قاعدة جريان قضاء العبادة على صفة المقضي ، ولم يقيدوا مطلق آية قضاء الصوم بما قيدت به آية كفارة الظهار وكفارة قتل الخطأ .
وفي الموطأ عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر أنه يقول : يصوم قضاء رمضان متتابعا من أفطره من مرض أو سفر ، قال
الباجي في المنتقى : يحتمل أن يريد به الوجوب وأن يريد الاستحباب .
وأما المبادرة بالقضاء ، فليس في الكتاب ولا في السنة ما يقتضيها ، وقوله هنا :
فعدة من أيام أخر مراد به الأمر بالقضاء ، وأصل الأمر لا يقتضي الفور ، ومضت السنة على أن
قضاء رمضان لا يجب فيه الفور بل هو موسع إلى شهر شعبان من السنة الموالية للشهر الذي أفطر فيه ، وفي الصحيح عن
عائشة قالت : يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان . وهذا واضح الدلالة على عدم وجوب الفور ، وبذلك قال جمهور العلماء وشذ
nindex.php?page=showalam&ids=15858داود الظاهري فقال : يشرع في قضاء رمضان ثاني يوم شوال المعاقب له .
وأما من
أفطر متعمدا في يوم من أيام قضاء رمضان فالجمهور على أنه لا كفارة عليه ؛ لأن الكفارة شرعت حفظا لحرمة شهر رمضان ، وليس لأيام القضاء حرمة ، وقال
قتادة : تجب عليه الكفارة بناء على أن قضاء العبادة يساوي أصله .