ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون تذييل لما تقدم من أحوال الذين من خشية ربهم مشفقون ; لأنه لما ذكر ما اقتضى مخالفة المشركين لما أمروا به من توحيد الدين ، وذكر بعده ما دل
[ ص: 79 ] على تقوى المؤمنين بالخشية وصحة الإيمان والبذل ومسارعتهم في الخيرات ذيل ذلك بأن الله ما طلب من الذين تقطعوا أمرهم إلا تكليفا لا يشق عليهم ، وبأن الله عذر من المؤمنين من لم يبلغوا مبلغ من يفوتهم في الأعمال عذرا يقتضي اعتبار أجرهم على ما فاتهم إذا بذلوا غاية وسعهم . قال تعالى :
ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله .
فقوله :
ولا نكلف نفسا إلا وسعها خبر مراد منه لازمه وهو تسجيل التقصير على الذين تقطعوا أمرهم بينهم . وقطع معذرتهم ، وتيسير الاعتذار على
الذين هم من خشية ربهم مشفقون كقوله تعالى :
يريد الله بكم اليسر مع ما في ذلك من جبر الخواطر المنكسرة من أهل الإيمان الذين لم يلحقوا غيرهم لعجز أو خصاصة .
ولمراعاة هذا المعنى عطف قوله :
ولدينا كتاب ينطق بالحق وهو معنى إحاطة العلم بأحوالهم ونواياهم . فالكتاب هنا هو الأمر الذي فيه تسجيل الأعمال من حسنات وسيئات وإطلاق الكتاب عليه لإحاطته . وفي قوله : لدينا دلالة على أن ذلك محفوظ لا يستطيع أحد تغييره بزيادة ولا نقصان . والنطق مستعار للدلالة ، ويجوز أن يكون نطق الكتاب حقيقة بأن تكون الحروف المكتوبة فيه ذات أصوات ، وقدرة الله لا تحد .
وأما قوله :
وهم لا يظلمون فالمناسب أن يكون مسوقا لمؤاخذة المفرطين والمعرضين فيكون الضمير عائدا إلى ما عاد إليه ضمير
فتقطعوا أمرهم وأشباهه من الضمائر ، والاعتماد على قرينة السياق ، وقوله :
بل قلوبهم في غمرة من هذا وما بعده من الضمائر .
[ ص: 80 ] والظلم على هذا الوجه محمول على ظاهره وهو حرمان الحق والاعتداء .
ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى عموم الأنفس في قوله :
ولا نكلف نفسا إلا وسعها فيكون قوله :
وهم لا يظلمون من بقية التذييل ، والظلم على هذا الوجه مستعمل في النقص من الحق كقوله تعالى :
كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا فيكون وعيدا لفريق ووعدا لفريق .
وهذا أليق الوجهين بالإعجاز .