حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون
( حتى ) ابتدائية وقد علمت مفادها غير مرة ، وتقدمت في سورة الأنبياء; ولا تفيد أن مضمون ما قبلها مغيا بها فلا حاجة إلى تعليق ( حتى ) بـ ( يصفون ) . والوجه أن ( حتى ) متصلة بقوله :
وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون . فهذا انتقال إلى وصف ما يلقون من العذاب في الآخرة بعد أن ذكر عذابهم في الدنيا فيكون قوله هنا :
حتى إذا جاء أحدهم الموت وصفا أنفا لعذابهم في الآخرة . وهو الذي رجحنا به أن يكون ما سبق ذكره من العذاب ثلاث مرات عذابا في الدنيا لا في الآخرة . فإن حملت العذاب السابق الذكر على عذاب الآخرة كان ذلك إجمالا : وكان قوله :
[ ص: 123 ] حتى إذا جاء أحدهم الموت إلى آخره تفصيلا له .
وضمائر الغيبة عائدة إلى ما عادت عليه الضمائر السابقة من قوله : (
قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما إنا لمبعوثون ) إلى ما هنا وليست عايدة إلى الشياطين . ولقصد إدماج التهديد بما سيشاهدون من عذاب أعد لهم فيندمون على تفريطهم في مدة حياتهم .
وضمير الجمع في ( ارجعون ) تعظيم للمخاطب . والخطاب بصيغة الجمع لقصد التعظيم طريقة عربية ، وهو يلزم صيغة التذكير فيقال في خطاب المرأة إذا قصد تعظيمها : أنتم . ولا يقال : أنتن . قال
العرجي :
فإن شئت حرمت النساء سواكـم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
فقال : سواكم . وقال
جعفر بن علبة الحارثي من شعراء الحماسة :
فلا تحسبي أني تخشعت بعدكـم لشيء ولا أني من الموت أفرق
فقال : بعدكم ، وقد حصل لي هذا باستقراء كلامهم ولم أر من وقف عليه .
وجملة الترجي في موضع العلة لمضمون ( ارجعون ) .
والترك هنا مستعمل في حقيقته وهو معنى التخلية والمفارقة . وما صدق ( ما تركت ) عالم الدنيا . ويجوز أن يراد بالترك معناه المجازي وهو الإعراض والرفض ، على أن يكون ما صدق الموصول الأيمان بالله وتصديق رسوله ، فذلك هو الذي رفضه كل من يموت على الكفر ، فالمعنى : لعلي أسلم وأعمل صالحا في حالة إسلامي الذي كنت رفضته ، فاشتمل هذا المعنى على وعد بالامتثال واعتراف بالخطأ فيما سلف . وركب بهذا النظم الموجز قضاء لحق البلاغة .
و ( كلا ) ردع للسامع ليعلم إبطال طلبة الكافر .
وقوله :
إنها كلمة هو قائلها تركيب يجري مجرى المثل وهو من مبتكرات القرآن . وحاصل معناه : أن قول المشرك :
رب ارجعون إلخ لا يتجاوز أن يكون كلاما صدر من لسانه لا جدوى له فيه ، أي : لا يستجاب طلبه به .
[ ص: 124 ] فجملة ( هو قائلها ) وصف لـ ( كلمة ) ، أي : هي كلمة ، هذا وصفها . وإذ كان من المحقق أنه قائلها لم يكن في وصف ( كلمة ) به فائدة جديدة فتعين أن يكون الخبر مستعملا في معنى أنه لا وصف لكلمته غير كونها صدرت من في صاحبها .
وبذلك يعلم أن التأكيد بحرف ( إن ) لتحقيق المعنى الذي استعمل له الوصف .
والكلمة هنا مستعمل في الكلام كقول النبيء صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341910أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكما في قولهم : كلمة الشهادة وكلمة الإسلام . وتقدم قوله تعالى :
ولقد قالوا كلمة الكفر في سورة براءة .
والوراء هنا مستعار للشيء الذي يصيب المرء لا محالة ويناله وهو لا يظنه يصيبه . شبه ذلك بالذي يريد اللحاق بالسائر فهو لاحقه ، وهذا كقوله تعالى :
والله من ورائهم محيط وقوله :
من ورائهم جهنم وقوله :
ومن ورائه عذاب غليظ . وتقدم قوله :
وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا .
وقال
لبيد :
أليس ورائي أن تراخت منيتـي لزوم العصا تحني عليها الأصابع
والبرزخ : الحاجز بين مكانين . قيل : المراد به في هذه الآية القبر ، وقيل : هو بقاء مدة الدنيا . وقيل : هو عالم بين الدنيا والآخرة تستقر فيه الأرواح فتكاشف على مقرها المستقبل . وإلى هذا مال
الصوفية . وقال السيد في التعريفات : البرزخ العالم المشهود بين عالم المعاني المجردة وعالم الأجسام المادية ، أعني الدنيا والآخرة ويعبر به عن عالم المثال ا هـ ، أي : عند الفلاسفة القدماء .
ومعنى
إلى يوم يبعثون أنهم غير راجعين إلى الحياة إلى يوم البعث .
فهي إقناط لهم ; لأنهم يعلمون أن يوم البعث الذي وعدوه لا رجوع بعده
[ ص: 125 ] إلى الدنيا فالذي قال لهم (
إلى يوم يبعثون ) هو الذي أعلمهم بما هو البعث .