شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان
قد علمت أن هذه الآيات تكملة للآيات السابقة وأن لا نسخ في خلال هاته الآيات ، فقوله :
شهر رمضان خبر مبتدأ محذوف تقديره هي ؛ أي : الأيام المعدودات شهر رمضان ، والجملة
[ ص: 169 ] مستأنفة بيانيا ؛ لأن قوله :
أياما معدودات يثير سؤال السامع عن تعيين هذه الأيام ، ويؤيد ذلك قراءة
مجاهد " شهرا " بالنصب على البدلية من " أياما " : بدل تفصيل .
وحذف المسند إليه جار على طريقة الاستعمال في المسند إليه إذا تقدم من الكلام ما فيه تفصيل وتبيين لأحوال المسند إليه فهم يحذفون ضميره ، وإذا جوزت أن يكون هذا الكلام نسخا لصدر الآية لم يصح أن يكون التقدير : هي شهر رمضان ، فيتعين أن يكون شهر رمضان مبتدأ ، خبره قوله :
فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، واقتران الخبر بالفاء حينئذ مراعاة لوصف المبتدأ بالموصول الذي هو شبيه بالشرط ، ومثله كثير في القرآن وفي كلام العرب ، أو على زيادة الفاء في الخبر كقوله :
وقائلة خولان فانكح فتاتهم أنشده
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه ، وكلا هذين الوجهين ضعيف .
والشهر جزء من اثني عشر جزءا من تقسيم السنة قال تعالى :
إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض والشهر يبتدئ من ظهور الهلال إلى المحاق ، ثم ظهور الهلال مرة أخرى ، وهو مشتق من الشهرة ؛ لأن الهلال يظهر لهم فيشهرونه ليراه الناس فيثبت الشهر عندهم .
ورمضان : علم وليس منقولا ؛ إذ لم يسمع مصدر على وزن الفعلان من رمض - بكسر الميم - إذا احترق ؛ لأن الفعلان يدل على الاضطراب ولا معنى له هنا ، وقيل : هو منقول عن المصدر . ورمضان علم على الشهر التاسع من أشهر السنة العربية القمرية المفتتحة بالمحرم ؛ فقد كان العرب يفتتحون أشهر العام بالمحرم ؛ لأن نهاية العام عندهم هي انقضاء الحج ومدة الرجوع إلى آفاقهم ، ألا ترى أن
لبيدا جعل جمادى الثانية وهو نهاية فصل الشتاء شهرا سادسا إذ قال :
حتى إذا سلخا جمادى ستة جزءا فطال صيامه وصيامها
ورمضان ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون ؛ لأنه مشتق من الرمضاء وهي الحرارة ، لأن رمضان أول أشهر الحرارة بناء على ما كان من النسيء في السنة عند العرب إذ كانت
[ ص: 170 ] السنة تنقسم إلى ستة فصول كل فصل منها شهران : الفصل الأول الخريف وشهراه محرم وصفر ، الثاني : ربيع الأول وهو وقت نضج الثمار وظهور الرطب والتمر وشهراه شهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني على أن الأول والثاني وصف لشهر ، ألا ترى أن العرب يقولون : الرطب شهري ربيع ، الثالث : الشتاء وشهراه جمادى الأولى وجمادى الثانية قال
حاتم :
في ليلة من جمادى ذات أندية لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة حتى يلف على خيشومه الذنبا
الرابع : الربيع الثاني - والثاني وصف للربيع - وهذا هو وقت ظهور النور والكمأة ، وشهراه رجب وشعبان ، وهو فصل الدر والمطر ، قال
النابغة يذكر غزوات
النعمان بن الحارث :
وكانت لهم ربعية يحذرونها إذا خضخضت ماء السماء القبائل
وسموه الثاني ؛ لأنه يجيء بعد الربيع الأول في حساب السنة ، قال
النابغة :
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ربيع الثان والبلد الحرام
في رواية وروى " ربيع الناس " ، وسموا كلا منهما ربيعا ؛ لأنه وقت خصب ، الفصل الخامس الصيف ، وهو مبدأ الحر ، وشهراه رمضان وشوال ؛ لأن النوق تشول أذنابها فيه تطرد الذباب .
السادس : القيظ وشهراه ذو القعدة وذو الحجة . وبعض القبائل تقسم السنة إلى أربعة ، كل فصل له ثلاثة أشهر ؛ وهي الربيع وشهوره رجب وشعبان ورمضان ، والصيف وشهوره شوال وذو القعدة وذو الحجة ، والخريف وشهوره محرم وصفر والربيع الأول ، والشتاء وشهوره شهر ربيع الثاني - على أن الأول والثاني وصفان لشهر لا لربيع - وجمادى الأولى وجمادى الثانية .
ولما كانت أشهر العرب قمرية ، وكانت السنة القمرية أقل من أيام السنة الشمسية التي تجيء بها الفصول تنقص أحد عشر يوما وكسرا ، وراموا أن يكون الحج في وقت الفراغ من الزروع والثمار ووقت السلامة من البرد وشدة الحر - جعلوا للأشهر كبسا بزيادة شهر في السنة بعد ثلاث سنين وهو المعبر عنه بالنسيء .
[ ص: 171 ] وأسماء الشهور كلها أعلام لها عدا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني ، فلذلك وجب ذكر لفظ الشهر معهما ، ثم وصفه بالأول والثاني ؛ لأن معناه الشهر الأول من فصل الربيع أعني الأول ، فالأول والثاني صفتان لشهر ، أما الأشهر الأخرى فيجوز فيها ذكر لفظ الشهر بالإضافة من إضافة اسم النوع إلى واحده ، مثل شجر الأراك ومدينة
بغداد ، وبهذا يشعر كلام
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه والمحققين ، فمن قال : إنه لا يقال رمضان إلا بإضافة شهر إليه بناء على أن رمضان مصدر ، حتى تكلف لمنعه من الصرف بأنه صار بإضافة شهر إليه علما ، فمنع جزء العلم من الصرف كما منع هريرة في
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة فقد تكلف شططا وخالف ما روي من قول النبيء صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341224من صام رمضان إيمانا واحتسابا بنصب رمضان وإنما انجر إليهم هذا الوهم من اصطلاح كتاب الديوان كما في أدب الكاتب .
وإنما أضيف الشهر إلى رمضان في هذه الآية مع أن الإيجاز المطلوب لهم يقتضي عدم ذكره ، إما لأنه الأشهر في فصيح كلامهم وإما للدلالة على استيعاب جميع أيامه بالصوم ؛ لأنه لو قال : رمضان ، لكان ظاهرا لا نصا ، لا سيما مع تقدم قوله : ( أياما ) فيتوهم السامعون أنها أيام من رمضان .
فالمعنى أن الجزء المعروف بشهر رمضان من السنة العربية القمرية هو الذي جعل ظرفا لأداء فريضة الصيام المكتوبة في الدين ،
فكلما حل الوقت المعين من السنة المسمى بشهر رمضان فقد وجب على المسلمين أداء فريضة الصوم فيه ، ولما كان ذلك حلوله مكررا في كل عام كان وجوب الصوم مكررا في كل سنة ؛ إذ لم ينط الصيام بشهر واحد مخصوص ، ولأن ما أجري على الشهر من الصفات يحقق أن المراد منه الأزمنة المسماة به طول الدهر .
وظاهر قوله :
الذي أنزل فيه القرآن أن المخاطبين يعلمون أن
نزول القرآن وقع في شهر رمضان ، لأن الغالب في صلة الموصول أن يكون السامع عالما باختصاصها بمن أجري عليه الموصول ، ولأن مثل هذا الحدث الديني من شأنه ألا يخفى عليهم ، فيكون الكلام تذكيرا بهذا الفضل العظيم ، ويجوز أيضا أن يكون إعلاما بهذا الفضل ، وأجري الكلام على طريقة الوصف بالموصول للتنبيه على أن الموصوف مختص بمضمون هذه الصلة بحيث تجعل طريقا لمعرفته ، ولا نسلم لزوم علم المخاطب باتصاف ذي الصلة بمضمونها في التعريف بالموصولية ، بل ذلك غرض أغلبي كما يشهد به تتبع كلامهم ، وليس المقصود الإخبار
[ ص: 172 ] عن شهر رمضان بأنه أنزل فيه القرآن ؛ لأن تركيب الكلام لا يسمح باعتباره خبرا ؛ لأن لفظ شهر رمضان خبر وليس هو مبتدأ ، والمراد بإنزال القرآن ابتداء إنزاله على النبيء صلى الله عليه وسلم ، فإن فيه ابتداء النزول من عام واحد وأربعين من الفيل فعبر عن إنزال أوله باسم جميعه ؛ لأن ذلك القدر المنزل مقدر إلحاق تكملته به ، كما جاء في كثير من الآيات ، مثل قوله :
وهذا كتاب أنزلناه مبارك وذلك قبل إكمال نزوله ، فيشمل كل ما يلحق به من بعد ، وقد تقدم قوله :
والذين يؤمنون بما أنزل إليك ومعنى
أنزل فيه القرآن أنزل في مثله ؛ لأن الشهر الذي أنزل فيه القرآن قد انقضى قبل نزول آية الصوم بعدة سنين ، فإن
صيام رمضان فرض في السنة الثانية للهجرة فبين فرض الصيام والشهر الذي أنزل فيه القرآن حقيقة - عدة سنين ، فيتعين بالقرينة أن المراد أنزل في مثله ؛ أي : في نظيره من عام آخر .
فقد جعل الله للمواقيت المحدودة اعتبارا يشبه اعتبار الشيء الواحد المتجدد ، وإنما هذا اعتبار للتذكير بالأيام العظيمة المقدار ، كما قال تعالى :
وذكرهم بأيام الله ، فخلع الله على المواقيت التي قارنها شيء عظيم في الفضل أن جعل لتلك المواقيت فضلا مستمرا تنويها بكونها تذكرة لأمر عظيم ، ولعل هذا هو الذي جعل الله لأجله سنة الهدي في الحج ؛ لأن في مثل ذلك الوقت ابتلى الله
إبراهيم بذبح ولده
إسماعيل وأظهر عزم
إبراهيم وطاعته ربه ، ومنه أخذ العلماء تعظيم اليوم الموافق ليوم ولادة النبيء صلى الله عليه وسلم ، ويجيء من هذا
إكرام ذرية رسول الله وأبناء الصالحين وتعظيم ولاة الأمور الشرعية القائمين مقام النبيء صلى الله عليه وسلم في أعمالهم من الأمراء والقضاة والأئمة .
وهذا يدل على أن مراد الله تعالى من الأمة صوم ثلاثين يوما متتابعة مضبوطة المبدأ والنهاية متحدة لجميع المسلمين .
ولما كان ذلك هو المراد وقت بشهر معين قمريا لسهولة ضبط بدئه ونهايته برؤية الهلال والتقدير ، واختير شهر رمضان من بين الأشهر ؛ لأنه قد شرف بنزول القرآن فيه ، فإن نزول القرآن لما كان لقصد تنزيه الأمة وهداها ، ناسب أن يكون ما به تطهير النفوس والتقرب من الحالة الملكية واقعا فيه ، والأغلب على ظني أن النبيء صلى الله عليه وسلم كان يصوم أيام تحنثه في
غار حراء قبل أن ينزل عليه الوحي إلهاما من الله تعالى وتلقينا لبقية
[ ص: 173 ] من الملة الحنفية ، فلما أنزل عليه الوحي في شهر رمضان أمر الله الأمة الإسلامية بالصوم في ذلك الشهر ، روى
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341225جاورت بحراء شهر رمضان ، وقال
ابن سعد : جاء الوحي وهو في غار
حراء يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان .
وقوله :
هدى للناس وبينات من الهدى حالان من القرآن إشارة بهما إلى وجه تفضيل الشهر بسبب ما نزل فيه من الهدى والفرقان .
والمراد بالهدى الأول : ما في القرآن من الإرشاد إلى المصالح العامة والخاصة التي لا تنافي العامة ، وبالبينات من الهدى : ما في القرآن من الاستدلال على الهدى الخفي الذي ينكره كثير من الناس مثل أدلة التوحيد وصدق الرسول وغير ذلك من الحجج القرآنية . والفرقان مصدر فرق ، وقد شاع في الفرق بين الحق والباطل ؛ أي : إعلان التفرقة بين الحق الذي جاءهم من الله وبين الباطل الذي كانوا عليه قبل الإسلام ، فالمراد بالهدى الأول : ضرب من الهدى غير المراد من الهدى الثاني ، فلا تكرار .