ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا .
لما جرى الوعيد والتسلية بذكر حال المكذبين للرسول عليه الصلاة والسلام
[ ص: 25 ] عطف على ذلك تمثيلهم بالأمم المكذبين رسلهم ليحصل من ذلك موعظة هؤلاء وزيادة تسلية الرسول ، والتعريض بوعده بالانتصار له .
وابتدئ بذكر
موسى وقومه لأنه أقرب زمنا من الذين ذكروا بعده ، ولأن بقايا شرعه وأمته لم تزل معروفة عند العرب ، فإن صح ما روي أن الذين قالوا : (
لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة )
اليهود فوجه الابتداء بذكر ما أوتي
موسى أظهر .
وحرف التحقيق ولام القسم لتأكيد الخبر باعتبار ما يشتمل عليه من الوعيد بتدميرهم . وأريد بالكتاب الوحي الذي يكتب ويحفظ ، وذلك من أول ما ابتدئ بوحيه إليه ، وليس المراد بالكتاب الألواح ؛ لأن إيتاءه الألواح كان بعد زمن قوله : (
اذهبا إلى القوم ) ، فقوله : فقلنا اذهبا مفرع عن إيتاء الكتاب ، فالإيتاء متقدم عليه .
وفي وصف الوحي بالكتاب تعريض بجهالة المشركين القائلين (
لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ) ، فإن الكتب التي أوتيها الرسل ما كانت إلا وحيا نزل منجما فجمعه الرسل وكتبه أتباعهم .
والتعريض هنا إلى تأييد
موسى بهارون وتعريض بالرد على المشركين إذ قالوا : (
لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ) فإن موسى لما اقتضت الحكمة تأييده لم يؤيد بملك ولكنه أيد برسول مثله .
والوزير : المؤازر وهو المعاون المظاهر ، مشتق من الأزر وهو القوة . وأصل الأزر : شد الظهر بإزار عند الإقبال على عمل ذي تعب ، وقد تقدم في سورة طه . وكان
هارون رسولا ثانيا
وموسى هو الأصل . والقوم هم
قبط مصر قوم فرعون .
والذين كذبوا بآياتنا وصف للقوم ، وليس هو من المقول
لموسى وهارون ؛ لأن التكذيب حينئذ لما يقع منهم ، ولكنه وصف لإفادة قراء القرآن أن
موسى وهارون بلغا الرسالة وأظهر الله منهما الآيات فكذب بها قوم
فرعون فاستحقوا التدمير تعريضا بالمشركين في تكذيبهم
محمدا صلى الله عليه وسلم ، وتمهيدا للتفريع بـ (
فدمرناهم تدميرا ) الذي هو المقصود من الموعظة والتسلية .
[ ص: 26 ] والموصول في قوله : (
الذين كذبوا بآياتنا ) للإيماء إلى علة الخبر عنهم بالتدمير .
وقد حصل بهذا النظم إيجاز عجيب اختصرت به القصة فذكر منها حاشيتاها : أولها وآخرها ؛ لأنهما المقصود بالقصة وهو استحقاق الأمم التدمير بتكذيبهم رسلهم .
والتدمير : الإهلاك ، والهلاك : دمور .
وإتباع الفعل بالمفعول المطلق لما في تنكير المصدر من تعظيم التدمير وهو الإغراق في اليم .