[ ص: 37 ] أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا .
انتقال عن التأييس من اهتدائهم لغلبة الهوى على عقولهم إلى التحذير من أن يظن بهم إدراك الدلائل والحجج ، وهذا توجيه ثان للإعراض عن مجادلتهم التي أنبأ عنها قوله تعالى : (
وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا ) ، فـ ( أم ) منقطعة للإضراب الانتقالي من إنكار إلى إنكار وهي مؤذنة باستفهام عطفته على الاستفهام الذي قبلها . والتقدير : أم أتحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون .
والمراد من نفي ( أن أكثرهم يسمعون ) نفي أثر السماع وهو فهم الحق ؛ لأن ما يلقيه الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرتاب فيه إلا من هو كالذي لم يسمعه . وهذا كقوله تعالى : (
ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ) .
وعطف ( أو يعقلون ) على ( يسمعون ) لنفي أن يكونوا يعقلون الدلائل غير المقالية وهي دلائل الكائنات ، قال تعالى : (
قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) .
وإنما نفي فهم الأدلة السمعية والعقلية عن أكثرهم دون جميعهم ؛ لأن هذا حال دهمائهم ومقلديهم ، وفيهم معشر عقلاء يفهمون ويستدلون بالكائنات ولكنهم غلب عليهم حب الرئاسة وأنفوا من أن يعودوا أتباعا للنبيء صلى الله عليه وسلم ومساوين للمؤمنين من ضعفاء قريش وعبيدهم مثل عمار ، وبلال .
وجملة (
إن هم إلا كالأنعام ) مستأنفة استئنافا بيانيا ؛ لأن ما تقدم من إنكار أنهم يسمعون يثير في نفس السامعين سؤالا عن نفي فهمهم لما يسمعون مع سلامة حواس السمع منهم ، فكان تشبيههم بالأنعام تبيينا للجمع بين حصول اختراق أصوات الدعوى آذانهم مع عدم انتفاعهم بها لعدم تهيئهم للاهتمام بها ، فالغرض من التشبيه التقريب والإمكان كقول
أبي الطيب :
فإن تفق الأنام وأنت منـهم فإن المسك بعض دم الغزال
وضمائر الجمع عائدة إلى أكثرهم باعتبار معنى لفظه كما عاد عليه ضمير ( يسمعون ) .
[ ص: 38 ] وانتقل في صفة حالهم إلى ما هو أشد من حال الأنعام بأنهم أضل سبيلا من الأنعام . وضلال السبيل عدم الاهتداء للمقصود ؛ لأن الأنعام تفقه بعض ما تسمعه من أصوات الزجر ونحوها من رعاتها وسائقيها وهؤلاء لا يفقهون شيئا من أصوات مرشدهم وسائسهم وهو الرسول عليه الصلاة والسلام . وهذا كقوله تعالى : (
فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ) الآية .