وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا .
عود إلى الاستدلال على تفرده تعالى بالخلق . جمعت هذه الآية استدلالا وتمثيلا
[ ص: 54 ] وتثبيتا ووعدا ، فصريحها استدلال على شيء عظيم
من آثار القدرة الإلهية وهو التقاء الأنهار والأبحر كما سيأتي ، وفي ضمنها تمثيل لحال دعوة الإسلام في
مكة يومئذ واختلاط المؤمنين مع المشركين بحال تجاوز البحرين : أحدهما عذب فرات ، والآخر ملح أجاج . وتمثيل الإيمان بالعذب الفرات والشرك بالملح الأجاج ، وأن الله تعالى كما جعل بين البحرين برزخا يحفظ العذب من أن يكدره الأجاج ، كذلك حجز بين المسلمين والمشركين فلا يستطيع المشركون أن يدسوا كفرهم بين المسلمين . وفي هذا تثبيت للمسلمين بأن الله يحجز عنهم ضر المشركين لقوله : (
لن يضروكم إلا أذى ) . وفي ذلك تعريض كنائي بأن الله ناصر لهذا الدين من أن يكدره الشرك .
ولأجل ما فيها من التمثيل والتثبيت والوعد كان لموقعها عقب جملة (
فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ) أكمل حسن . وهي معطوفة على جملة (
وهو الذي أرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته ) ) . ومناسبة وقوعها عقب التي قبلها أن كلتيهما استدلال بآثار القدرة في تكوين المياه المختلفة . ومفاد القصر هنا نظير ما تقدم في الآيتين السابقتين .
والمزج : الخلط . واستعير هنا لشدة المجاورة ، والقرينة قوله : (
وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا ) . والبحر : الماء المستبحر ، أي : الكثير العظيم . والعذب : الحلو . والفرات : شديد الحلاوة . والملح بكسر الميم وصف به بمعنى المالح ، ولا يقال في الفصيح إلا ملح وأما مالح فقليل . وأريد هنا ملتقى ماء نهري الفرات والدجلة مع ماء بحر خليج العجم .
والبرزخ : الحائل بين شيئين . والمراد بالبرزخ تشبيه ما في تركيب الماء الملح مما يدفع تخلل الماء العذب فيه بحيث لا يختلط أحدهما بالآخر ويبقى كلاهما حافظا لطعمه عند المصب .
( وحجرا ) مصدر منصوب على المفعولية به ؛ لأنه معطوف على مفعول ( جعلنا ) . وليس هنا مستعملا في التعوذ كالذي تقدم آنفا في قوله تعالى : (
ويقولون حجرا محجورا ) . و ( محجورا ) وصف لـ ( حجرا ) مشتق من مادته للدلالة على تمكن المعنى المشتق منه كما قالوا : ليل أليل . وقد تقدم في هذه السورة . ووقع في الكشاف تكلف بجعل ( حجرا محجورا ) هنا بمعنى التعوذ
[ ص: 55 ] كالذي في قوله : (
ويقولون حجرا محجورا ) ولا داعي إلى ذلك ؛ لأن ما ذكروه من استعمال (
حجرا محجورا ) في التعوذ لا يقتضي أنه لا يستعمل إلا كذلك .