والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما
أفاد قوله : (
إذا أنفقوا ) أن الإنفاق من خصالهم فكأنه قال : والذين ينفقون وإذا أنفقوا إلخ . وأريد بالإنفاق هنا الإنفاق غير الواجب وذلك إنفاق المرء على أهل بيته وأصحابه ؛ لأن الإنفاق الواجب لا يذم الإسراف فيه ، والإنفاق الحرام لا يحمد مطلقا بله أن يذم الإقتار فيه على أن في قوله : إذا أنفقوا إشعارا بأنهم اختاروا أن ينفقوا ولم يكن واجبا عليهم .
والإسراف : تجاوز الحد الذي يقتضيه الإنفاق بحسب حال المنفق وحال المنفق عليه . وتقدم معنى الإسراف في قوله تعالى : (
ولا تأكلوها إسرافا ) في سورة النساء ، وقوله : (
ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) في سورة الأنعام .
والإقتار عكسه . وكان أهل الجاهلية يسرفون في النفقة في اللذات ويغلون السباء في الخمر ويتممون الأيسار في الميسر . وأقوالهم في ذلك كثيرة في أشعارهم
[ ص: 72 ] وهي في معلقة
طرفة وفي معلقة
لبيد وفي ميمية
النابغة ، ويفتخرون بإتلاف المال ليتحدث العظماء عنهم بذلك ، قال الشاعر مادحا :
مفيد ومتلاف إذا ما أتيتـه تهلل واهتز اهتزاز المهند
وقرأ
نافع وابن عامر وأبو جعفر (
ولم يقتروا ) بضم التحتية وكسر الفوقية من الإقتار وهو مرادف التقتير . وقرأه
ابن كثير ،
وأبو عمرو ،
ويعقوب بفتح التحتية وكسر الفوقية من الإقتار وهو مرادف التقتير ، وقرأه
ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بفتح التحتية وكسر الفوقية من قتر من باب ضرب وهو لغة . وقرأ
عاصم ،
وحمزة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ،
وخلف بفتح التحتية وضم الفوقية من فعل قتر من باب نصر .
والإقتار والقتر : الإحجاف والنقص مما تسعه الثروة ويقتضيه حال المنفق عليه . وكان أهل الجاهلية يقترون على المساكين والضعفاء ؛ لأنهم لا يسمعون ثناء العظماء في ذلك . وقد تقدم ذلك عند قوله : (
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين ) .
والإشارة في قوله : ( بين ذلك ) إلى ما تقدم بتأويل المذكور ، أي : الإسراف والإقتار .
والقوام بفتح القاف : العدل والقصد بين الطرفين .
والمعنى أنهم يضعون النفقات مواضعها الصالحة كما أمرهم الله فيدوم إنفاقهم وقد رغب الإسلام في العمل الذي يدوم عليه صاحبه ، وليسير نظام الجماعة على كفاية دون تعريضه للتعطيل فإن الإسراف من شأنه استنفاد المال فلا يدوم الإنفاق ، وأما الإقتار فمن شأنه إمساك المال فيحرم من يستأهله .
وقوله : ( بين ذلك ) خبر ( كان ) ، و ( قواما ) حال مؤكدة لمعنى ( بين ذلك ) . وفيها إشعار بمدح ما بين ذلك بأنه الصواب الذي لا عوج فيه . ويجوز أن يكون ( قواما ) خبر ( كان ) و ( بين ذلك ) ظرفا متعلقا به . وقد جرت الآية على مراعاة الأحوال الغالبة في إنفاق الناس . قال
القرطبي : والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله ، ولهذا ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=showalam&ids=1أبا بكر الصديق يتصدق بجميع ماله ومنع غيره من ذلك .