[ ص: 93 ] لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين .
حول الخطاب من توجيهه إلى المعاندين إلى توجيهه للرسول - عليه الصلاة والسلام - . والكلام استئناف بياني جوابا عما يثيره مضمون قوله : (
تلك آيات الكتاب المبين ) من تساؤل النبيء - صلى الله عليه وسلم - في نفسه عن استمرار إعراض المشركين عن الإيمان وتصديق القرآن كما قال تعالى : (
فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ) ، وقوله : (
فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) .
و ( لعل ) إذا جاءت في ترجي الشيء المخوف سميت إشفاقا وتوقعا . وأظهر الأقوال أن الترجي من قبيل الخبر ، وأنه ليس بإنشاء مثل التمني .
والترجي مستعمل في الطلب . والأظهر أنه حث على ترك الأسف من ضلالهم على طريقة تمثيل شأن المتكلم الحاث على الإقلاع بحال من يستقرب حصول هلاك المخاطب إذا استمر على ما هو فيه من الغم .
والباخع : القاتل . وحقيقة البخع إعماق الذبح . يقال : بخع الشاة ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : إذا بلغ بالسكين البخاع بالموحدة المكسورة وهو عرق مستبطن الفقار ، كذا قال في الكشاف هنا وذكره أيضا في الفائق . وقد تقدم ما فيه عند قوله تعالى : (
فلعلك باخع نفسك على آثارهم ) في سورة الكهف . وهو هنا مستعار للموت السريع ، والإخبار عنه بـ (
باخع ) تشبيه بليغ . وفي (
باخع ) ضمير المخاطب هو الفاعل .
و (
ألا يكونوا ) ) في موضع نصب على نزع الخافض بعد ( أن ) والخافض لام التعليل ، والتقدير : لأن لا يكونوا مؤمنين ، أي : لانتفاء إيمانهم في المستقبل ؛ لأن ( أن ) تخلص المضارع للاستقبال . والمعنى : أن غمك من عدم إيمانهم فيما مضى يوشك أن يوقعك في الهلاك في المستقبل بتكرر الغم والحزن ، كقول إخوة
يوسف لأبيهم لما قال : (
يا أسفى على يوسف ) فقالوا : (
تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ) ؛ فوزان هذا المعنى وزان معنى قوله في سورة الكهف : (
فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ) ، فإن ( إن ) الشرطية تتعلق بالمستقبل . ويجوز أن يجعل (
ألا يكونوا ) ) في موضع
[ ص: 94 ] الفاعل لـ (
باخع ) والجملة خبر ( لعل ) . وإسناد (
باخع ) إلى (
ألا يكونوا مؤمنين ) ) مجاز عقلي ؛ لأن عدم إيمانهم جعل سببا للبخع .
وجيء بمضارع الكون للإشارة إلى أنه لا يأسف على عدم إيمانهم ولو استمر ذلك في المستقبل فيكون انتفاؤه فيما مضى أولى بأن لا يؤسف له .
وحذف متعلق ( مؤمنين ) ، إما لأن المراد ( مؤمنين ) بما جئت به من التوحيد والبعث وتصديق القرآن وتصديق الرسول ، وإما لأنه أريد بمؤمنين المعنى اللقبي ، أي أن لا يكونوا في عداد الفريق المعروف بالمؤمنين وهم أمة الإسلام . وضمير (
ألا يكونوا ) ) عائد إلى معلوم من المقام وهم المشركون الذي دعاهم النبيء - صلى الله عليه وسلم .
وعدل عن : أن لا يؤمنوا ، إلى (
ألا يكونوا مؤمنين ) ) ؛ لأن في فعل الكون دلالة على الاستمرار زيادة على ما أفادته صيغة المضارع ، فتأكد استمرار عدم إيمانهم الذي هو مورد الإقلاع عن الحزن له . وقد جاء في سورة الكهف (
فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث ) بحرف نفي الماضي وهو ( لم ) ؛ لأن سورة الكهف متأخرة النزول عن سورة الشعراء فعدم إيمانهم قد تقرر حينئذ وبلغ حد المأيوس منه .
وضمير ( يكونوا ) عائد إلى معلوم من مقام التحدي الحاصل بقوله : (
طسم تلك آيات الكتاب المبين ) للعلم بأن المتحدين هم الكافرون المكذبون .