قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين .
جملة ( قالوا ) استئناف بياني لما يثيره قوله (
كذبت قوم نوح ) من استشراف السامع لمعرفة ما دار بينهم وبين
نوح من حوار ولذلك حكيت مجادلتهم . بطريقة : قالوا ، وقال . والقائلون : هم كبراء القوم الذي تصدوا لمحاورة
نوح .
[ ص: 160 ] والاستفهام في ( أنؤمن ) استفهام إنكاري ، أي : لا نؤمن لك وقد اتبعك الأرذلون فجملة ( واتبعك ) حالية .
والأرذلون : سقط القوم موصوفون بالرذالة وهي الخسة والحقارة ، أرادوا بهم ضعفاء القوم وفقراءهم فتكبروا وتعاظموا أن يكونوا والضعفاء سواء في اتباع
نوح . وهذا كما قال عظماء المشركين للنبيء صلى الله عليه وسلم لما كان من المؤمنين
عمار وبلال nindex.php?page=showalam&ids=138وزيد بن حارثة : أنحن نكون تبعا لهؤلاء ؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك . فأنزل الله تعالى
ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه الآيات من سورة الأنعام .
وقرأ الجمهور ( واتبعك ) بهمزة وصل وتشديد التاء الفوقية على أنه فعل مضي من صيغة الافتعال . والمعنى : أنهم كانوا من أتباعه أو كانوا أكثر أتباعه . وقرأ
يعقوب ( وأتباعك ) بهمزة قطع وسكون الفوقية وألف بعد الموحدة على أنه جمع تابع . والمعنى : أنهم أتباعه لا غيرهم فالصيغة صيغة قصر .
وجواب
نوح عن كلام قومه يحتاج إلى تدقيق في لفظه ومعناه . فأما لفظه فاقتران أوله بالواو يجعله في حكم المعطوف على كلام قومه تنبيها على اتصاله بكلامهم . وذلك كناية عن مبادرته بالجواب كما في قوله تعالى حكاية عن
إبراهيم عليه السلام قال : ومن ذريتي بعد قوله :
قال إني جاعلك للناس إماما . ويسمى عطف تلقين مراعاة لوقوعه في تلك الآية والأولى أن يسمى عطف تكميل .
وأما معناه فهو استفهام مؤذن بأن قومه فصلوا إجمال وصفهم أتباعه بالأرذلين بأن بينوا أوصافا من أحوال أهل الحاجة الذين لا يعبأ الناس بهم فأتى بالاستفهام عن علمه استفهاما مستعملا في قلة الاعتناء بالمستفهم عنه ، وهو كناية عن قلة جدواه ; لأن الاستفهام عن الشيء يؤذن بالجهل به ، والجهل تلازمه قلة العناية بالمجهول وضعف شأنه ، كما يقال لك : يهددك فلان ، فتقول : وما فلان ، أي : لا يعبأ به . وفي خبر
nindex.php?page=showalam&ids=17283وهب بن كيسان عن
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله أن
أبا عبيدة كان يقوتنا كل يوم تمرة فقال
وهب : قلت وما تغني عنكم تمرة .
[ ص: 161 ] والمعنى : أي شيء علمي بما كانوا يعملون حتى أشتغل بتحصيل علم ما كانوا يعملون وأعمالهم بما يناسب مراتبهم فأنا لا أهتم بما قبل إيمانهم .
وضمن ( علمي ) معنى اشتغالي واهتمامي فعدي بالباء .
و ( ما كانوا يعملون ) موصول ماصدقه الحالة ; لأن الحالة لا تخلو من عمل . فالمعنى : وما علمي بأعمالهم . وهذا كما يقال في السؤال عن أحد : ماذا فعل فلان ؟ أي ما خبره وما حاله ؟ ومنه قول النبيء صلى الله عليه وسلم للصبي الأنصاري :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10342264يا أبا عمير ما فعل النغير لطائر يسمى النغر بوزن صرد ، وهو من نوع البلبل كان عند الصبي يلعب به ، ومنه قوله لمن سأله عن الذين ماتوا من صبيان المشركين :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10342265الله أعلم بما كانوا عاملين أي : الله أعلم بحالهم ، فهو إمساك عن الجواب . وقريب منه قول العرب : ما باله ، أي : ما حاله ؟
وفعل ( كانوا ) مزيد بين ( ما ) الموصولة وصلتها لإفادة التأكيد ، أي : تأكيد مدلول ( ما علمي بما كانوا يعملون ) . والمعنى : أي شيء علمي بما يعملون . وليس المراد بما كانوا عملوه من قبل . والواو في قوله ( بما كانوا ) فاعل وليست اسما ل ( كان ) ; لأن ( كان ) الزائدة لا تنصب الخبر .
وشمل قوله : (
بما كانوا يعملون ) جميع أحوالهم في دينهم ودنياهم في الماضي والحال والمستقبل والظاهر والباطن .
والحساب حقيقته : أن الله هو الذي يتولى معاملتهم بما أسلفوا وما يعملون وبحقائق أعمالهم . وهذا المقال اقتضاه قوله : (
وما علمي بما كانوا يعملون ) من شموله جميع أعمالهم الظاهرة والباطنة التي منها ما يحاسبون عليه وهو الأهم عند الرسول المشرع فلذلك لما قال :
وما علمي بما كانوا يعملون أتبعه بقوله :
إن حسابهم إلا على ربي على عادة أهل الإرشاد في عدم إهمال فرصته . وهذا كقول النبيء صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10342071فإذا قالوها أي : لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله أي : تحقيق مطابقة باطنهم لظاهرهم على الله .
[ ص: 162 ] وزاد
نوح قوله بيانا بقوله :
وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين وبين هذا المعنى قوله في الآية الأخرى
الله أعلم بما في أنفسهم في سورة هود .
والقصر في قوله
إن حسابهم إلا على ربي قصر موصوف على الصفة ، والموصوف هو حسابهم والصفة هي على ربي ; لأن المجرور الخبر في قوة الوصف ، فإن المجرورات والظروف الواقعة أخبارا تتضمن معنى يتصف به المبتدأ وهو الحصول والثبوت المقدر في الكلام بكائن أو مستقر كما بينه علماء النحو . والتقدير : حسابهم مقصور على الاتصاف بمدلول ( على ربي ) . وكذلك قدره
السكاكي في المفتاح ، وهو قصر إفراد إضافي ، أي : لا يتجاوز الكون على ربي إلى الاتصاف بكونه علي . وهو رد لما تضمنه كلام قومه من مطالبته بإبعاد الذين آمنوا ؛ لأنهم لا يستحقون أن يكونوا مساوين لهم في الإيمان الذي طلبه
نوح من قومه .
وقوله : (
لو تشعرون ) تجهيل لهم ورغم لغرورهم وإعجابهم الباطل . وجواب ( لو ) محذوف دل عليه ما قبله . والتقدير : لو تشعرون لشعرتم بأن حسابهم على الله لا علي فلما سألتمونيه . ودل على أنه جهلهم قوله في سورة هود :
ولكني أراكم قوما تجهلون . هذا هو التفسير الذي يطابق نظم الآية ومعناها من غير احتياج إلى زيادات وفروض .
والمفسرون نحوا منحى تأويل ( الأرذلون ) أنهم الموصوفون بالرذالة الدنية ، أي : الطعن في صدق إيمان من آمن به ، وجعلوا قوله :
وما علمي بما كانوا يعملون تبرؤا من الكشف على ضمائرهم وصحة إيمانهم . ولعل الذي حملهم على ذلك هو لفظ الحساب في قوله :
إن حسابهم إلا على ربي فحملوه على الحساب الذي يقع يوم الجزاء وذلك لا يثلج له الصدر .
وعطف قوله :
وما أنا بطارد المؤمنين على قوله :
وما علمي بما كانوا يعملون فبعد أن أبطل مقتضى طردهم صرح بأنه لا يفعله .
وجملة
إن أنا إلا نذير مبين استئناف في معنى التعليل ، أي : ; لأن وصفي يصرفني عن موافقتكم .
[ ص: 163 ] والمبين : من أبان المتعدي بمعنى بين ووضح . والقصر إضافي وهو قصر موصوف على صفة .
وقد تقدم في سورة هود حكاية موقف
لنوح عليه السلام مع قومه شبيه بما حكي هنا وبين الحكايتين اختلاف ما ، فلعلهما موقفان أو هما كلامان في موقف واحد حكي أحدهما هنالك والآخر هنا على عادة قصص القرآن ، فما في إحدى الآيتين من زيادة يحمل على أنه مكمل لما في الأخرى .