كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون فيقولوا هل نحن منظرون .
تقدم نظير أول هذه الآية في سورة الحجر ، إلا أن آية الحجر قيل فيها :
كذلك نسلكه وفي هذه الآية قيل : ( سلكناه ) ، والمعنى في الآيتين واحد والمقصود منهما واحد ، فوجه اختيار المضارع في آية الحجر أنه دال على التجدد ; لئلا يتوهم أن المقصود إبلاغ مضى وهو الذي أبلغ لشيع الأولين لتقدم ذكرهم فيتوهم أنهم المراد بالمجرمين مع أن المراد كفار
قريش . وأما هذه الآية فلم يتقدم فيها ذكر لغير كفار
قريش فناسبها حكاية وقوع هذا الإبلاغ منذ زمن مضى . وهم مستمرون على عدم الإيمان .
وجملة ( كذلك سلكناه ) إلخ مستأنفة بيانية ، أي : إن سألت عن استمرار تكذيبهم بالقرآن في حين أنه نزل بلسان عربي مبين فلا تعجب فكذلك السلوك سلكناه في قلوب المشركين ; فهو تشبيه للسلوك المأخوذ ( من سلكناه ) بنفسه لغرابته . وهذا نظير ما تقدم في قوله تعالى :
وكذلك جعلناكم أمة وسطا في سورة البقرة ، أي : هو سلوك لا يشبهه سلوك وهو أنه دخل قلوبهم بإبانته وعرفوا دلائل صدقه من أخبار علماء
بني إسرائيل ومع ذلك لم يؤمنوا به .
ومعنى ( سلكناه ) أدخلناه ، قال
الأعشى :
كما سلك السكي في الباب فيتق
[ ص: 195 ] وعبر عن المشركين ب ( المجرمين ) ; لأن كفرهم بعد نزول القرآن إجرام . وجملة ( لا يؤمنون به ) في موضع الحال من ( المجرمين ) .
والغاية في ( حتى يروا العذاب ) تهديد بعذاب سيحل بهم ، وحث على المبادرة بالإيمان قبل أن يحل بهم العذاب . والعذاب صادق بعذاب الآخرة لمن هلكوا قبل حلول عذاب الدنيا ، وصادق بعذاب السيف يوم بدر ، ومعلوم أنه (
لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ) .
وقوله : (
فيأتيهم بغتة ) صالح للعذابين : عذاب الآخرة يأتي عقب الموت والموت يحصل بغتة ، وعذاب الدنيا بالسيف يحصل بغتة حين الضرب بالسيف .
والفاء في قوله ( فيأتيهم ) عاطفة لفعل ( يأتيهم ) على فعل ( يروا ) كما دل عليه نصب ( يأتيهم ) وذلك ما يستلزمه معنى العطف من إفادة التعقيب فيثير إشكالا بأن إتيان العذاب لا يكون بعد رؤيتهم إياه بل هما حاصلان مقترنين فتعين تأويل معنى الآية . وقد حاول صاحب الكشاف والكاتبون عليه تأويلها بما لا تطمئن له النفس .
ولا وجه عندي في تأويلها أن تكون جملة ( فيأتيهم بغتة ) بدل اشتمال من جملة ( يروا العذاب الأليم ) وأدخلت الفاء فيها لبيان صورة الاشتمال ، أي : إن رؤية العذاب مشتملة على حصوله بغتة ، أي : يرونه دفعة دون سبق أشراط له .
أما الفاء في قوله ( فيقولوا ) فهي لإفادة التعقيب في الوجود وهو صادق بأسرع تعذيب فتكون خطرة في نفوسهم قبل أن يهلكوا في الدنيا ، أو يقولون ذلك ويرددونه يوم القيامة حين يرون العذاب وحين يلقون فيه .
و ( هل ) مستعملة في استفهام مراد به التمني مجازا ، وجيء بعدها بالجملة الاسمية الدالة على الثبات ، أي : تمنوا إنظارا طويلا يتمكنون فيه من الإيمان والعمل الصالح .