قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون .
( قالت ) جواب محاورة فلذلك فصل .
أبدت لهم رأيها مفضلة جانب السلم على جانب الحرب وحاذرة من الدخول تحت سلطة
سليمان اختيارا ; لأن نهاية الحرب فيها احتمال أن ينتصر
سليمان فتصير مملكة سبأ إليه ، وفي الدخول تحت سلطة
سليمان إلقاء للمملكة في تصرفه ، وفي كلا الحالين يحصل تصرف ملك جديد في مدينتها فعلمت بقياس شواهد التاريخ وبخبرة طبائع الملوك إذا تصرفوا في مملكة غيرهم أن يقلبوا نظامها إلى ما يساير مصالحهم واطمئنان نفوسهم من انقلاب الأمة المغلوبة عليهم في فرص الضعف أو لوائح الاشتغال بحوادث مهمة ، فأول ما يفعلونه إقصاء الذين كانوا في الحكم ; لأن الخطر يتوقع من جانبهم حيث زال سلطانهم بالسلطان الجديد ، ثم يبدلون القوانين والنظم التي كانت تسير عليها الدولة ، فأما إذا أخذوها عنوة فلا يخلو الأخذ من تخريب وسبي ومغانم ، وذلك أشد فسادا . وقد اندرج الحالان في قولها
إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة .
[ ص: 266 ] وافتتاح جملة ( إن الملوك ) بحرف التأكيد للاهتمام بالخبر وتحقيقه ، فقولها : ( إذا دخلوا قرية أفسدوها ) استدلال بشواهد التاريخ الماضي ولهذا تكون ( إذا ) ظرفا للماضي بقرينة المقام كقوله تعالى :
وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وقوله :
ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا .
وجملة (
وكذلك يفعلون ) استدلال على المستقبل بحكم الماضي على طريقة الاستصحاب وهو كالنتيجة للدليل الذي في قوله :
إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها . والإشارة إلى المذكور من الإفساد وجعل الأعزة أذلة ، أي : فكيف نلقي بأيدينا إلى من لا يألو إفسادا في حالنا .
فدبرت أن تتفادى من الحرب ومن الإلقاء باليد ، بطريقة المصانعة والتزلف إلى
سليمان بإرسال هدية إليه ، وقد عزمت على ذلك ، ولم تستطلع رأي أهل مشورتها ; لأنهم فوضوا الرأي إليها ؛ ولأن سكوتهم على ما تخبرهم به يعد موافقة ورضى .
وهذا الكلام مقدمة لما ستلقيه إليهم من عزمها ، ويتضمن تعليلا لما عزمت عليه .
والباء في ( بهدية ) باء المصاحبة . ومفعول ( مرسلة ) محذوف دل عليه وصف ( مرسلة ) وكون التشاور فيما تضمنه كتاب
سليمان . فالتقدير : مرسلة إليهم كتابا ووفدا مصحوبا بهدية ; إذ لا بد أن يكون الوفد مصحوبا بكتاب تجيب به كتاب
سليمان ، فإن الجواب عن الكتاب عادة قديمة ، وهو من سنن المسلمين ، وعد من
حق المسلم على المسلم قال
القرطبي : إذا ورد على إنسان في كتاب بالتحية أو نحوها ينبغي أن يرد الجواب ; لأن الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر . وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه كان يرى رد الكتاب واجبا كرد السلام اهـ . ولم أقف على حكم فيه من مذاهب الفقهاء . والظاهر أن الجواب إن كان عن كتاب مشتمل على صيغة السلام أن يكون رد الجواب واجبا وأن يشتمل على رد السلام ; لأن الرد بالكتابة يقاس على الرد بالكلام مع إلغاء فارق ما في المكالمة من المواجهة التي يكون ترك الرد معها أقرب لإلقاء العداوة . ولم أر في كتب النبيء صلى الله عليه وسلم جوابا عن كتاب إلا جوابه عن كتاب
مسيلمة والسلام على من اتبع الهدى .
[ ص: 267 ] والهدية : فعيلة من أهدى : فالهدية ما يعطى لقصد التقرب والتحبب ، والجمع هدايا على اللغة الفصحى ، وهي لغة سفلى معد . وأصل هدايا : هدائي بهمزة بعد ألف الجمع ثم ياء ; لأن فعيلة يجمع على فعائل بإبدال ياء فعيلة همزة ; لأنها حرف وقع في الجمع بعد حرف مد فلما وجدوا الضمة في حالة الرفع ثقيلة على الياء سكنوا الياء طردا للباب ثم قلبوا الياء الساكنة ألفا للخفة فوقعت الهمزة بين ألفين فثقلت فقلبوها ياء ؛ لأنها مفتوحة وهي أخف ، وأما لغة سفلى معد فيقولون : هداوى بقلب الهمزة التي بين الألفين واوا ؛ لأنها أخت الياء وكلتاهما أخت الهمزة .
و ( ناظرة ) اسم فاعل من نظر بمعنى انتظر ، أي : مترقبة ، فتكون جملة (
بم يرجع المرسلون ) مبينة لجملة ( فناظرة ) ، أو مستأنفة . وأصل النظم : فناظرة ما يرجع المرسلون به ، فغير النظم لما أريد أنها مترددة فيما يرجع به المرسلون . فالباء في قوله (
بم يرجع المرسلون ) متعلقة بفعل ( يرجع ) قدمت على متعلقها لاقترانها بحرف ( ما ) الاستفهامية ; لأن الاستفهام له صدر الكلام .
ويجوز أن يكون ( ناظرة ) من النظر العقلي ، أي : عالمة ، وتعلق الباء بفعل ( يرجع ) ، وعلى كلا الوجهين ( فناظرة ) معلق عن العمل في مفعوله أو مفعوليه لوجود الاستفهام ، ولا يجوز تعلق الباء ب ( ناظرة ) ; لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيما بعده فمن ثم غلطوا الحوفي في تفسيره لتعليقه الباء ب ( ناظرة ) كما في الجهة السادسة من الباب الخامس من مغني اللبيب .