فلما جاء سليمان قال أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون .
أي فلما جاء الرسول الذي دل عليه قوله :
وإني مرسلة إليهم بهدية ، فالإرسال يقتضي رسولا ، والرسول لفظه مفرد ويصدق بالواحد والجماعة ، كما تقدم في قصة
موسى في سورة الشعراء . وأيضا فإن هدايا الملوك يحملها ركب ، فيجوز أن يكون فاعل ( جاء ) الركب المعهود في إرسال هدايا أمثال الملوك .
[ ص: 268 ] وقد أبى
سليمان قبول الهدية ; لأن الملكة أرسلتها بعد بلوغ كتابه ، ولعلها سكتت عن الجواب عما تضمنه كتابه من قوله : (
وأتوني مسلمين ) فتبين له قصدها من الهدية أن تصرفه عن محاولة ما تضمنه الكتاب ، فكانت الهدية رشوة لتصرفه عن بث سلطانه على مملكة سبأ .
والخطاب في ( أتمدونني ) لوفد الهدية لقصد تبليغه إلى الملكة ; لأن خطاب الرسل إنما يقصد به من أرسلهم فيما يرجع إلى الغرض المرسل فيه .
والاستفهام إنكاري ; لأن حال إرسال الهدية والسكوت عن الجواب يقتضي محاولة صرف
سليمان عن طلب ما طلبه بما بذل له من المال ، فيقتضي أنهم يحسبونه محتاجا إلى مثل ذلك المال فيقتنع بما وجه إليه .
ويظهر أن الهدية كانت ذهبا ومالا .
وقرأ الجمهور ( أتمدونني ) بنونين . وقرأه
حمزة وخلف بنون واحدة مشددة بالإدغام . والفاء لتفريع الكلام الذي بعدها على الإنكار السابق ، أي : أنكرت عليكم ظنكم فرحي بما وجهتم لي ; لأن ما أعطاني الله خير مما أعطاكم ، أي : فهو أفضل منه في صفات الأموال من نفاسة ووفرة .
وسوق التعليل يشعر بأنه علم أن الملكة لا تعلم أن لدى
سليمان من الأموال ما هو خير مما لديها ; لأنه لو كان يظن أنها تعلم ذلك لما احتاج إلى التفريع .
وهذا من أسرار الفرق في الكلام البليغ بين الواو والفاء في هذه الجملة فلو قال : وما آتاني الله خير مما آتاكم ، لكان مشعرا بأنها تعلم ذلك ; لأن الواو تكون واو الحال .
و ( بل ) للإضراب الانتقالي وهو انتقال من إنكاره عليهم إمداده بمال إلى رد ذلك المال وإرجاعه إليهم .
وإضافة ( هديتكم ) تشبيه ، تحتمل أن تكون من إضافة الشيء إلى ما هو في معنى المفعول ، أي : مما تهدونه . ويجوز أن يكون شبيهة بالإضافة إلى ما هو في معنى المفعول ، أي : بما يهدى إليكم . والخبر استعمل كناية عن رد الهدية للمهدي .
[ ص: 269 ] ومعنى ( تفرحون ) يجوز أن يكون تسرون ، ويجوز أن يكون تفتخرون ، أي : أنتم تعظم عندكم تلك الهدية لا أنا ; لأن الله أعطاني خيرا منها .
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في ( أنتم . . . تفرحون ) لإفادة القصر ، أي : أنتم . وهو الكناية عن رد الهدية .
وتوعدهم وهددهم بأنه مرسل إليهم جيشا لا قبل لهم بحربه . وضمائر جمع الذكور الغائب في قوله ( فلنأتينهم ) ( ولنخرجنهم ) عائدة إلى القوم ، أي : لنخرجن من نخرج من الأسرى .
وقوله : (
فلنأتينهم بجنود ) يحتمل أنه أراد غزو بلدها بنفسه ، فتكون الباء للمصاحبة . ويحتمل أنه أراد إرسال جنود لغزوها فتكون الباء للتعدية كالتي في قوله تعالى :
ذهب الله بنورهم أي : أذهبه ; فيكون المعنى : فلنؤتينهم جنودا ، أي : نجعلها آتية إياهم .
والقبل : الطاقة . وأصله المقابلة فأطلق على الطاقة ; لأن الذي يطيق شيئا يثبت للقائه ويقابله . فإذا لم يطقه تقهقر عن لقائه . ولعل أصل هذا الاستعمال ناظر إلى المقابلة في القتال .
والباء في ( بها ) للسببية ، أي : انتفى قبلهم بسببها ، أو تكون الباء للمصاحبة ، أي : انتفى قبلهم المصاحب لها ، أي : للقدرة على لقائها .
وضمير ( بها ) للجنود وضمير ( منها ) للمدينة ، وهي
مأرب ، أي : يخرجهم أسرى ويأتي بهم إلى مدينته .
والصاغر : الذليل اسم فاعل من صغر بضم الغين المستعمل بمعنى ذل ومصدره الصغار . والمراد : ذل الهزيمة والأسر .