وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون لما قالوا قولا في تكذيبه واستظهروا على قولهم بأن ما جاء به
موسى شيء ما علمه آباؤهم أجاب
موسى كلامهم بمثله في تأييد صدقه ، فإنه يعلمه الله ، فما علم آبائهم في جانب علم الله بشيء ، فلما تمسكوا بعلم آبائهم تمسك
موسى بعلم الله تعالى ، فقد احتج
موسى بنفسه ولم يكل ذلك إلى
هارون .
وكان مقتضى الاستعمال أن يحكى كلام
موسى بفعل القول غير معطوف بالواو شأن حكاية المحاورات كما قدمناه غير مرة ، فخولف ذلك هنا بمجيء حرف
[ ص: 120 ] العطف في قراءة الجمهور غير
ابن كثير ؛ لأنه قصد هنا التوازن بين حجة ملإ فرعون وحجة
موسى ، ليظهر للسامع التفاوت بينهما في مصادفة الحق ، ويتبصر فساد أحدهما وصحة الآخر ، وبضدها تتبين الأشياء ، فلهذا عطفت الجملة جريا على الأصل غير الغالب للتنبيه على النظر في معناهما . وقرأ
ابن كثير ، قال
موسى بدون واو وهي مرسومة في مصحف أهل
مكة بدون واو على أصل حكاية المحاورات ، وقد حصل من مجموع القراءتين الوفاء بحق الخصوصيتين من مقتضى حالي الحكاية . وعبر عن الله بوصف الربوبية مضافا إلى ضميره للتنصيص على أن الذي يعلم الحق هو الإله الحق لا آلهتهم المزعومة .
ويظهر أن
القبط لم يكن في لغتهم اسم على الرب واجب الوجود الحق ولكن أسماء آلهة مزعومة .
وعبر في جانب
من جاء بالهدى بفعل المضي وفي جانب
من تكون له عاقبة الدار بالمضارع ؛ لأن المجيء بالهدى المحقق والمزعوم أمر قد تحقق ومضى سواء كان الجائي به
موسى أم آباؤهم الأولون وعلماؤهم . وأما كيان عاقبة الدار لمن فمرجو لما يظهر بعد . ففي قوله
ربي أعلم بمن جاء بالهدى إشهاد لله تعالى وكلام منصف ، أي ربي أعلم بتعيين الجائي بالهدى أنحن أم أنتم ، على نحو قوله تعالى
وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين .
وفي قوله
ومن تكون له عاقبة الدار تفويض إلى ما سيظهر من نصر أحد الفريقين على الآخر ، وهو تعويض بالوعيد بسوء عاقبتهم .
و
عاقبة الدار كلمة جرت مجرى المثل في خاتمة الخير بعد المشقة تشبيها لعامل العمل بالسائر المنتجع إذا صادف دار خصب واستقر بها ،
وقال الحمد لله الذي أحلنا دار المقامة من فضله . فأصل
عاقبة الدار : الدار العاقبة . فأضيفت الصفة إلى موصوفها .
والعاقبة : هي الحالة العاقبة ، أي التي تعقب ، أي تجيء عقب غيرها ، فيؤذن هذا اللفظ بتبديل حال إلى ما هو خير ، فلذلك لا تطلق على العاقبة المحمودة . وقد
[ ص: 121 ] تقدم في سورة الأنعام قوله
فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار وفي سورة الرعد قوله
أولئك لهم عقبى الدار وقوله " وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار " .
وقرأ الجمهور ( تكون ) بالمثناة الفوقية على أصل تأنيث لفظ
عاقبة الدار وقرأ
حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي بالتحتية على الخيار في فعل الفاعل المجازي التأنيث .
وأيد ذلك كله بجملة
إنه لا يفلح الظالمون ، دلالة على ثقته بأنه على الحق وذلك يفت من أعضادهم ، ويلقي رعب الشك في النجاة في قلوبهم . وضمير " إنه " ضمير الشأن ؛ لأن الجملة بعده ذات معنى له شأن وخطر .