[ ص: 319 ] كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون
المناسبة أن القتال من البأساء التي في قوله
ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء فقد كلفت به الأمم قبلنا ، فقد كلفت
بنو إسرائيل بقتال
الكنعانيين مع
موسى عليه السلام ، وكلفوا بالقتال مع
طالوت وهو
شاول مع
داود ، وكلف
ذو القرنين بتعذيب الظالمين من القوم الذين كانوا في جهة المغرب من الأرض .
ولفظ كتب عليكم من صيغ الوجوب وقد تقدم في آية الوصية ، و " ال " في القتال للجنس ، ولا يكون القتال إلا للأعداء فهو عام عموما عرفيا ، أي كتب عليكم قتال عدو الدين .
والخطاب للمسلمين ، وأعداؤهم يومئذ المشركون ، لأنهم خالفوهم في الدين وآذوا الرسول والمؤمنين ، فالقتال المأمور به هو الجهاد لإعلاء كلمة الله ، وقد كان النبيء صلى الله عليه وسلم غير مأذون في القتال في أول ظهور الإسلام ، ثم أذن له في ذلك بقوله تعالى
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، ثم نزلت آية قتال المبادئين بقتال المسلمين في قوله تعالى
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم كما تقدم آنفا .
هذه الآية نزلت في واقعة سرية
عبد الله بن جحش كما يأتي ، وذلك في الشهر السابع عشر من الهجرة ، فالآية وردت في هذه السورة مع جملة التشريعات والنظم التي حوتها كقوله :
كتب عليكم الصيام ،
كتب عليكم القصاص ،
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت .
فعلى المختار يكون قوله :
كتب عليكم القتال خبرا عن حكم سبق لزيادة تقريره ولينتقل منه إلى قوله :
وهو كره لكم الآية ، أو إعادة لإنشاء وجوب القتال زيادة في تأكيده ، أو إنشاء أنفا لوجوب القتال إن كانت هذه أول آية نزلت في هذا المعنى بناء على أن قوله تعالى
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا إذن في القتال وإعداد له وليست بموجبة له .
وقوله :
وهو كره لكم ، حال لازمة وهي يجوز اقترانها بالواو ، ولك أن تجعلها جملة ثانية معطوفة على جملة :
كتب عليكم القتال ، إلا أن الخبر بهذا لما كان معلوما للمخاطبين
[ ص: 320 ] تعين أن يكون المراد من الإخبار لازم الفائدة ، أعني كتبناه عليكم ونحن عالمون أنه شاق عليكم ، وربما رجح هذا الوجه بقوله تعالى بعد هذا :
والله يعلم وأنتم لا تعلمون .
والكره بضم الكاف : الكراهية ونفرة الطبع من الشيء ومثله الكره بالفتح على الأصح ، وقيل : الكره بالضم المشقة ونفرة الطبع ، وبالفتح هو الإكراه وما يأتي على الإنسان من جهة غيره من الجبر على فعل ما بأذى أو مشقة ، وحيث قرئ بالوجهين هنا وفي قوله تعالى
حملته أمه كرها ووضعته كرها ولم يكن هنا ولا هنالك معنى للإكراه تعين أن يكون بمعنى الكراهية وإباية الطبع كما قال
الحماسي العقيلي :
بكره سراتنا يا آل عمرو نغاديكم بمرهفة النصال
رووه بضم الكاف وبفتحها .
على أن قوله تعالى بعد ذلك
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم الوارد مورد التذييل : دليل على أن ما قبله مصدر بمعنى الكراهية ليكون جزئيا من جزئيات أن تكرهوا شيئا .
وقد تمحل صاحب الكشاف لحمل المفتوح في هذه الآية والآية الأخرى على المجاز . وقرره
الطيبي والتفتازاني بما فيه تكلف ، وإذ هو مصدر فالإخبار به مبالغة في تمكن الوصف من المخبر عنه كقول
الخنساء :
فإنما هي إقبال وإدبار
أي تقبل وتدبر ، وقيل : الكره اسم للشيء المكروه كالخبر .
فالقتال كريه للنفوس ، لأنه يحول بين المقاتل وبين طمأنينته ولذاته ونومه وطعامه وأهله وبيته ، ويلجئ الإنسان إلى عداوة من كان صاحبه ويعرضه لخطر الهلاك أو ألم الجراح ، ولكن فيه دفع المذلة الحاصلة من غلبة الرجال واستضعافهم ، وفي الحديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341253لا تمنوا لقاء العدو فإذا لقيتم فاصبروا ، وهو إشارة إلى أن القتال من الضرورات التي لا يحبها الناس إلا إذا كان تركها يفضي إلى ضر عظيم قال
nindex.php?page=showalam&ids=14798العقيلي :
ونبكي حين نقتلكم عليكم ونقتلكم كأنا لا نبالي
[ ص: 321 ] ومعلوم أن
كراهية الطبع لا تنافي تلقي التكليف به برضا لأن أكثر التكليف لا يخلو عن مشقة .
ثم إن كانت الآية خبرا عن تشريع مضى ، يحتمل أن تكون جملة
وهو كره حكاية لحالة مضت وتلك في أيام قلة المسلمين ، فكان إيجاب القتال ثقيلا عليهم ، وقد كان من أحكامه أن يثبت الواحد منهم لعشرة من المشركين أعدائهم ، وذلك من موجبات كراهيتهم القتال ، وعليه فليس يلزم أن تكون تلك الكراهية باقية إلى وقت نزول هذه الآية ، فيحتمل أن يكون نزلت في شأن صلح
الحديبية وقد كانوا كرهوا الصلح واستحبوا القتال ، لأنهم يومئذ جيش كثير فيكون تذكيرا لهم بأن الله أعلم بمصالحهم ، فقد أوجب عليهم القتال حين كانوا يكرهونه وأوجب عليهم الصلح في وقت أحبوا فيه القتال ، فحذف ذلك لقرينة المقام ، والمقصود الإفضاء إلى قوله
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم لتطمئن أنفسهم بأن الصلح الذي كرهوه هو خير لهم ، كما تقدم في حوار
عمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع
أبي بكر ، ويكون في الآية احتباك ، إذ الكلام على القتال ، فتقدير السياق : كتب عليكم القتال وهو كره لكم ومنعتم منه وهو حب لكم ، وعسى أن تكرهوا القتال وهو خير لكم وعسى أن تحبوه وهو شر لكم ، وإن كانت الآية إنشاء تشريع فالكراهية موجودة حين نزول الآية فلا تكون واردة في شأن صلح
الحديبية ، وأول الوجهين أظهرهما عندي ليناسب قوله عقبه :
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه .
وقوله
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم تذييل احتيج إليه لدفع الاستغراب الناشئ عن قوله :
كتب عليكم القتال وهو كره لكم ، لأنه إذا كان مكروها فكان شأن رحمة الله بخلقه ألا يكتبه عليهم فذيل بهذا لدفع ذلك .
وجملة وعسى : معطوفة على جملة
كتب عليكم القتال ، وجملة
وهو خير لكم : حالية من شيئا على الصحيح من مجيء الحال من النكرة ، وهذا الكلام تلطف من الله تعالى لرسوله والمؤمنين ، وإن كان سبحانه غنيا عن البيان والتعليل ، لأنه يأمر فيطاع . ولكن في بيان الحكمة تخفيف من مشقة التكليف ، وفيه تعويد المسلمين بتلقي الشريعة معللة مذللة فأشار إلى أن
حكمة التكليف تعتمد المصالح ودرء المفاسد ، ولا تعتمد ملاءمة الطبع ومنافرته ، إذ يكره الطبع شيئا وفيه نفعه وقد يحب شيئا وفيه هلاكه ، وذلك باعتبار العواقب والغايات ،
[ ص: 322 ] فإن الشيء قد يكون لذيذا ملائما ولكن ارتكابه يفضي إلى الهلاك ، وقد يكون كريها منافرا وفي ارتكابه صلاح .
وشأن جمهور الناس الغفلة عن العاقبة والغاية أو جهلهما ، فكانت الشرائع وحملتها من العلماء والحكماء تحرض الناس على الأفعال والتروك باعتبار الغايات والعواقب .
فإن قلت : ما الحكمة في جعل أشياء كثيرة نافعة مكروهة ، وأشياء كثيرة ضارة محبوبة ، وهلا جعل الله تعالى النافع كله محبوبا والضار كله مكروها فتنساق النفوس للنافع باختيارها وتجتنب الضار كذلك فنكفى كلفة مسألة الصلاح والأصلح التي تناظر فيها
الأشعري مع شيخه
الجبائي وفارق
الأشعري من أجلها نحلة الاعتزال ؟ قلت : إن حكمة الله تعالى بنت نظام العالم على وجود النافع والضار والطيب والخبيث من الذوات والصفات والأحداث ، وأوكل للإنسان سلطة هذا العالم بحكم خلقه الإنسان صالحا للأمرين ، وأراه طريقي الخير والشر كما قدمناه عند قوله تعالى
كان الناس أمة واحدة ، وقد اقتضت الحكمة أن يكون النافع أكثر من الضار ولعل وجود الأشياء الضارة كونه الله لتكون آلة لحمل ناس على اتباع النافع كما قال تعالى
فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وقد أقام نظام هذا العالم على وجود المتضادات ، وجعل الكمال الإنساني حاصلا عند حصول جميع الصفات النافعة فيه ، بحيث إذا اختلت بعض الصفات النافعة منه انتقصت بقية الصفات النافعة منه أو اضمحلت ، وجعل الله الكمال أقل من النقص لتظهر مراتب النفوس في هذا العالم ومبالغ العقول البشرية فيه ، فاكتسب الناس وضيعوا وضروا ونفعوا فكثر الضار وقل النافع بما كسب الناس وفعلوا قال تعالى
قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث .
وكما صارت الذوات الكاملة الفاضلة أقل من ضدها صارت صفات الكمال عزيزة المنال ، وأحيطت عزتها ونفاستها بصعوبة منالها على البشر وبما يحف بها من الخطر والمتاعب ، لأنها لو كانت مما تنساق لها النفوس بسهولة لاستوى فيها الناس فلم تظهر مراتب الكمال ولم يقع التنافس بين الناس في تحصيل الفضائل واقتحام المصاعب لتحصيلها قال
أبو الطيب :
ولا فضل فيها للشجاعة والندى وصبر الفتى لولا لقاء شعوب
فهذا سبب صعوبة الكمالات على النفوس .
[ ص: 323 ] ثم إن الله تعالى جعل نظام الوجود في هذا العالم بتولد الشيء من بين شيئين وهو المعبر عنه بالازدواج ، غير أن هذا التولد يحصل في الذوات بطريقة التولد المعروفة قال تعالى
ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين ) وأما حصوله في المعاني ، فإنما يكون بحصول الصفة من بين معنى صفتين أخريين متضادتين تتعادلان في نفس فينشأ عن تعادلهما صفة ثالثة .
والفضائل جعلت متولدة من النقائص; فالشجاعة من التهور والجبن ، والكرم من السرف والشح ، ولا شك أن الشيء المتولد من شيئين يكون أقل مما تولد منه ، لأنه يكون أقل من الثلث ، إذ ليس كلما وجد الصفتان حصل منهما تولد صفة ثالثة ، بل حتى يحصل التعادل والتكافؤ بين تينك الصفتين المتضادتين وذلك عزيز الحصول ولا شك أن هاته الندرة قضت بقلة اعتياد النفوس هاته الصفات ، فكانت صعبة عليها لقلة اعتيادها إياها .
ووراء ذلك فالله حدد للناس نظاما لاستعمال الأشياء النافعة والضارة فيما خلقت لأجله ، فالتبعة في صورة استعمالها على الإنسان وهذا النظام كله تهيئة لمراتب المخلوقات في العالم الأبدي عالم الخلود وهو الدار الآخرة كما يقال ( الدنيا مزرعة الآخرة ) وبهذا تكمل نظرية النقض الذي نقض به الشيخ
الأشعري على شيخه
الجبائي أصلهم في وجوب الصلاح والأصلح فيكون بحث
الأشعري نقضا وكلامنا هذا سندا وانقلابا إلى استدلال .
وجملة
والله يعلم وأنتم لا تعلمون تذييل للجميع ، ومفعولا ( يعلم ) و ( تعلمون ) محذوفان دل عليهما ما قبله أي
والله يعلم الخير والشر ، وأنتم لا تعلمونهما ، لأن الله يعلم الأشياء على ما هي عليه والناس يشتبه عليهم العلم فيظنون الملائم نافعا والمنافر ضارا .
والمقصود من هذا تعليم المسلمين تلقي أمر الله تعالى باعتقاد أنه الصلاح والخير ، وأن ما لم تتبين لنا صفته من الأفعال المكلف بها نوقن بأن فيه صفة مناسبة لحكم الشرع فيه فنطلبها بقدر الإمكان عسى أن ندركها ، لنفرع عليها ونقيس ويدخل تحت هذا مسائل مسالك العلة ، لأن الله تعالى لا يجري أمره ونهيه إلا على وفق علمه .