ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزؤا أولئك لهم عذاب مهين وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم .
عطف على جملة
تلك آيات الكتاب الحكيم . والمعنى : أن حال الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين ، وأن من الناس معرضين عنه يؤثرون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله الذي يهدي إليه الكتاب . وهذا من مقابلة الثناء على آيات الكتاب الحكيم بضد ذلك في ذم ما يأتي به بعض الناس ، وهذا تخلص من المقدمة إلى مدخل للمقصود وهو تفظيع ما يدعو إليه
النضر بن الحارث ومشايعوه من اللهو بأخبار الملوك التي لا تكسب صاحبها كمالا ولا حكمة .
[ ص: 142 ] وتقديم المسند في قوله
ومن الناس للتشويق إلى تلقي خبره العجيب .
والاشتراء كناية عن العناية بالشيء والاغتباط به ، وليس هنا استعارة بخلاف قوله
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى في سورة البقرة ; فالاشتراء هنا مستعمل في صريحه وكنايته : فالصريح تشويه لاقتناء
النضر بن الحارث قصص
رستم وإسفنديار وبهرام ، والكناية تقبيح للذين التفوا حوله وتلقوا أخباره ، أي من الناس من يشغله لهو الحديث والولع به عن الاهتداء بآيات الكتاب الحكيم .
واللهو : ما يقصد منه تشغيل البال وتقصير طول وقت البطالة دون نفع ، لأنه إذا كانت في ذلك منفعة لم يكن المقصود منه اللهو بل تلك المنفعة ، ولهو الحديث ما كان من الحديث مرادا للهو فإضافة لهو إلى الحديث على معنى ( من ) التبعيضية على رأي بعض النحاة ، وبعضهم لا يثبت الإضافة على معنى ( من ) التبعيضية فيردها إلى معنى اللام .
وتقدم اللهو في قوله
وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو في سورة الأنعام .
والأصح في المراد بقوله
ومن الناس من يشتري لهو الحديث أنه
النضر بن الحارث فإنه كان يسافر في تجارة إلى
بلاد فارس فيتلقى أكاذيب الأخبار عن أبطالهم في الحروب المملوءة أكذوبات فيقصها على
قريش في أسمارهم ويقول : إن كان
محمد يحدثكم بأحاديث
عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث
رستم وإسفنديار وبهرام . ومن المفسرين من قال : إن
النضر كان يشتري من
بلاد فارس كتب أخبار ملوكهم فيحدث بها قريشا ، أي بواسطة من يترجمها لهم . ويشمل لفظ الناس
أهل سامره الذين ينصتون لما يقصه عليهم كما يقتضيه قوله تعالى إثره
أولئك لهم عذاب مهين .
وقيل المراد بـ
من يشتري لهو الحديث من يقتني القينات المغنيات ، روى
الترمذي ، عن
علي بن يزيد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14938القاسم بن عبد الرحمن ، عن
أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10342332لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام في مثل ذلك أنزلت هذه الآية
ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله إلى آخر الآية . قال
أبو عيسى : هذا حديث غريب إنما
[ ص: 143 ] يروى من حديث
القاسم ، عن
أبي أمامة ،
nindex.php?page=showalam&ids=16621وعلي بن يزيد يضعف في الحديث ، سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=12070محمدا ( يعني البخاري ) يقول :
علي بن يزيد يضعف اهــ .
وقال
ابن العربي في العارضة : في سبب نزولها قولان : أحدهما أنها نزلت في
النضر بن الحارث . الثاني أنها نزلت في رجل من
قريش ( قيل هو
ابن خطل ) اشترى جارية مغنية فشغل الناس بها عن استماع النبيء صلى الله عليه وسلم اهــ . وألفاظ الآية أنسب انطباقا على قصة
النضر بن الحارث .
ومعنى
ليضل عن سبيل الله أنه يفعل ذلك ليلهي
قريشا عن سماع القرآن فإن القرآن سبيل موصل إلى الله تعالى ، أي إلى الدين الذي أراده ، فلم يكن قصده مجرد اللهو بل تجاوزه إلى الصد عن سبيل الله ، وهذا زيادة في تفظيع عمله .
وقرأ الجمهور ( يضل ) بضم الياء . وقرأه
ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء ، أي ليزداد ضلالا على ضلالة إذ لم يكتف لنفسه بالكفر حتى أخذ يبث ضلاله للناس ، وبذلك يكون مآل القراءتين متحد المعنى .
ويتعلق
ليضل عن سبيل الله بفعل يشتري ويتعلق به أيضا قوله
بغير علم لأن أصل تعلق المجرورات أن يرجع إلى المتعلق المبني عليه الكلام ، فالمعنى : يشتري لهو الحديث بغير علم ، أي عن غير بصيرة في صالح نفسه حيث يستبدل الباطل بالحق .
والضمير المنصوب في ( يتخذها ) عائد إلى سبيل الله فإن السبيل تؤنث .
وقرأ الجمهور ( ويتخذها ) بالرفع عطفا على ( يشتري ) أي يشغل الناس بلهو الحديث ليصرفهم عن القرآن ويتخذ سبيل الله هزؤا . وقرأ
حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي وحفص عن
عاصم ويعقوب وخلف بالنصب عطفا على ( ليضل ) أي يلهيهم بلهو الحديث ليضلهم وليتخذ دين الإسلام هزءا .
ومآل المعنى متحد في القراءتين لأن كلا الأمرين من فعله ومن غرضه ، وأما الإضلال فقد رجح فيه جانب التعليل لأنه العلة الباعثة له على ما يفعل .
[ ص: 144 ] والهزؤ : مصدر هزأ به إذا سخر به كقوله ( اتخذوا آيات الله هزؤا ) .
ولما كان من يشتري لهو الحديث صادقا على
النضر بن الحارث والذين يستمعون إلى قصصه من المشركين جيء في وعيدهم بصيغة الجمع
أولئك لهم عذاب مهين .
واختير اسم الإشارة للتنبيه على أن ما يرد بعد اسم الإشارة من الخبر إنما استحقه لأجل ما سبق اسم الإشارة من الوصف .
وجملة
أولئك لهم عذاب مهين معترضة بين الجملتين جملة
من يشتري وجملة
وإذا تتلى عليه آياتنا فهذا عطف على جملة يشتري إلخ . والتقدير :
ومن الناس من يشتري إلخ
وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا فالموصول واحد وله صلتان : اشتراء لهو الحديث للضلال ، والاستكبار عندما تتلى عليه آيات القرآن .
ودل قوله
تتلى عليه أنه يواجه بتبليغ القرآن وإسماعه .
وقوله ( ولى ) تمثيل للإعراض عن آيات الله كقوله تعالى
ثم أدبر يسعى .
و " مستكبرا " حال ، أي هو إعراض استكبار لا إعراض تفريط في الخير فحسب .
وشبه في ذلك بالذي لا يسمع الآيات التي تتلى عليه ، ووجه الشبه هو عدم التأثر ولو تأثرا يعقبه إعراض كتأثر
الوليد بن المغيرة . و " كأن " مخففة من ( كأن ) وهي في موضع الحال من ضمير مستكبرا .
وكرر التشبيه لتقويته مع اختلاف الكيفية في أن عدم السمع مرة مع تمكن آلة السمع ومرة مع انعدام قوة آلته فشبه ثانيا بمن في أذنيه وقر وهو أخص من معنى
كأن لم يسمعها . ومثل هذا التشبيه الثاني قول
لبيد :
فتنازعا سبطا يطير ظلالـه كدخان مشعلة يشب ضرامها مشمولة غلثت بنابت عرفج
كدخان نار ساطع أسنامهـا
والوقر : أصله الثقل ، وشاع في الصمم مجازا مشهورا ساوى الحقيقة ، وقد تقدم في قوله
وفي آذانهم وقرا في سورة الأنعام .
[ ص: 145 ] وقرأ
نافع ( في أذنيه ) بسكون الذال للتخفيف لأجل ثقل المثنى ، وقرأه الباقون بضم الذال على الأصل .
وقد ترتب على هذه الأعمال التي وصف بها أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوعده بعذاب أليم . وإطلاق البشارة هنا استعارة تهكمية ، كقول
عمرو بن كلثوم :
فعجلنا القرى أن تشتمونا
وقد عذب
النضر بالسيف إذ قتل صبرا يوم بدر ، فذلك عذاب الدنيا ، وعذاب الآخرة أشد .