الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون
خبر آخر عن اسم الإشارة أو وصف آخر لـ " عالم الغيب " ، وهو ارتقاء في الاستدلال مشوب بامتنان على الناس أن أحسن خلقهم في جملة إحسان خلق كل شيء وبتخصيص خلق الإنسان بالذكر . والمقصود : أنه الذي خلق كل شيء - وخاصة الإنسان - خلقا بعد أن لم يكن شيئا مذكورا ، وأخرج أصله من تراب ثم كون فيه نظام النسل من ماء ، فكيف تعجزه إعادة أجزائه .
والإحسان : جعل الشيء حسنا ، أي محمودا غير معيب ، وذلك بأن يكون وافيا بالمقصود منه فإنك إذا تأملت الأشياء رأيتها مصنوعة على ما ينبغي ، فصلابة الأرض مثلا للسير عليها ، ورقة الهواء ليسهل انتشاقه للتنفس ، وتوجه لهيب النار إلى فوق لأنها لو كانت مثل الماء تلتهب يمينا وشمالا لكثرت الحرائق فأما الهواء فلا يقبل الاحتراق .
وقوله ( خلقه ) قرأه
نافع وعاصم وحمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي وخلف
بصيغة فعل المضي على أن الجملة صفة لـ " شيء " أي كل شيء من الموجودات التي خلقها وهم يعرفون كثيرا منها .
وقرأه الباقون بسكون اللام على أنه اسم هو بدل من " كل شيء " بدل اشتمال .
[ ص: 216 ] وتخلص من هذا الوصف العام إلى خلق الإنسان لأن
في خلقة الإنسان دقائق في ظاهره وباطنه وأعظمها العقل .
والإنسان أريد به الجنس ، وبدء خلقه هو خلق أصله
آدم كما في قوله تعالى :
ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ، أي خلقنا أباكم ثم صورناه ثم قلنا للملائكة اسجدوا
لآدم . ويدل على هذا المعنى هنا قوله
ثم جعل نسله من سلالة فإن ذلك بدئ من أول نسل
لآدم وحواء ، وقد تقدم
خلق آدم في سورة البقرة . ومن في قوله " من طين " ابتدائية .
والنسل : الأبناء والذرية . سمي نسلا لأنه ينسل ، أي ينفصل من أصله وهو مأخوذ من نسل الصوف والوبر إذا سقط عن جلد الحيوان ، وهو من بابي كتب وضرب .
و " من " في قوله " من سلالة " ابتدائية . وسميت النطفة التي يتقوم منها تكوين الجنين سلالة كما في الآية لأنها تنفصل عن الرجل ، فقوله " من ماء مهين " بيان لـ " سلالة " . و " من " بيانية ، فالسلالة هي الماء المهين ، هذا هو الظاهر لمتعارف الناس ; ولكن في الآية إيماء علمي لم يدركه الناس إلا في هذا العصر وهو أن النطفة يتوقف تكون الجنين عليها لأنه يتكون من ذرات فيها تختلط مع سلالة من المرأة وما زاد على ذلك يذهب فضله ، فالسلالة التي تنفرز من الماء المهين هي النسل لا جميع الماء المهين ، فتكون " من " في قوله " من ماء مهين " للتبعيض أو للابتداء .
والمهين : الشيء الممتهن الذي لا يعبأ به . والغرض من إجراء هذا الوصف عليه الاعتبار بنظام التكوين إذ جعل الله تكوين هذا الجنس المكتمل التركيب العجيب الآثار من نوع ماء مهراق لا يعبأ به ولا يصان .
والتسوية : التقويم ، قال تعالى :
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ، والضمير المنصوب في " سواه " عائد إلى " نسله " لأنه أقرب مذكور ولأنه ظاهر العطف بـ " ثم " وإن كان
آدم قد سوي ونفخ فيه من الروح ، قال تعالى :
[ ص: 217 ] فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين . وذكر التسوية ونفخ الروح في جانب النسل يؤذن بأن أصله كذلك ، فالكلام إيجاز .
وإضافة الروح إلى ضمير الجلالة للتنويه بذلك السر العجيب الذي لا يعلم تكوينه إلا هو تعالى ، فالإضافة تفيد أنه من أشد المخلوقات اختصاصا بالله تعالى وإلا فالمخلوقات كلها لله .
والنفخ : تمثيل لسريان اللطيفة الروحانية في الكثيفة الجسدية مع سرعة الإيداع ، وقد تقدم في قوله تعالى :
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي في سورة الحجر .
والانتقال من الغيبة إلى الخطاب في قوله " وجعل لكم " التفات لأن المخاطبين من أفراد الناس وجعل السمع والأبصار والأفئدة للناس كلهم غير خاص بالمخاطبين فلما انتهض الاستدلال على عظيم القدرة وإتقان المراد من المصنوعات المتحدث عنهم بطريقة الغيبة الشامل للمخاطبين وغيرهم ناسب أن يلتفت إلى الحاضرين بنقل الكلام إلى الخطاب لأنه آثر بالامتنان وأسعد بما يرد بعده من التعريض بالتوبيخ في قوله " قليلا ما تشكرون " . والامتنان بقوى الحواس وقوى العقل أقوى من الامتنان بالخلق وتسويته لأن الانتفاع بالحواس والإدراك متكرر متجدد فهو محسوس بخلاف التكوين والتقويم فهو محتاج إلى النظر في آثاره .
والعدول عن أن يقال : وجعلكم سامعين مبصرين عالمين إلى
وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لأن ذلك أعرق في الفصاحة ، ولما تؤذن به اللام من زيادة المنة في هذا الجعل إذ كان جعلا لفائدتهم ولأجلهم ، ولما في تعليق الأجناس من السمع والأبصار والأفئدة بفعل الجعل من الروعة والجلال في تمكن التصرف ، ولأن كلمة الأفئدة أجمع من كلمة عاقلين لأن الفؤاد يشمل الحواس الباطنة كلها والعقل بعض منها .
وأفرد السمع لأنه مصدر لا يجمع ، وجمع الأبصار والأفئدة باعتبار تعدد الناس .
وتقديم السمع على البصر تقدم وجهه عند قوله تعالى :
ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة [ ص: 218 ] في سورة البقرة . وتقديم السمع والأبصار هنا عكس آية البقرة لأنه روعي هنا ترتيب حصولها في الوجود فإنه يكتسب المسموعات والمبصرات قبل اكتساب التعقل .
و " قليلا " اسم فاعل منتصب على الحال من ضمير " لكم " ، و " ما تشكرون " في تأويل مصدر وهو مرتفع على الفاعلية بـ " قليلا " ، أي : أنعم عليكم بهذه النعم الجليلة وحالكم قلة الشكر . ثم يجوز أن يكون قليلا مستعملا في حقيقته وهي كون الشيء حاصلا ولكنه غير كثير . ويجوز أن يكون كناية عن العدم كقوله تعالى "
فلا يؤمنون إلا قليلا " . وعلى الوجهين يحصل التوبيخ لأن النعم المستحقة للشكر وافرة دائمة فالتقصير في شكرها وعدم الشكر سواء .