ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل
لما جرى ذكر إعراض المشركين عن آيات الله وهي آيات القرآن في قوله
ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها ، استطرد إلى تسلية النبيء - صلى الله عليه وسلم - بأن ما لقي من قومه هو نظير ما لقيه
موسى من قوم
فرعون الذين أرسل إليهم فالخبر مستعمل في التسلية بالتنظير والتمثيل .
فهذه الجملة وما بعدها إلى قوله
فيما كانوا فيه يختلفون معترضات . وموقع التأكيد بلام القسم وحرف التحقيق هو ما استعمل فيه الخبر من التسلية لا لأصل الأخبار لأنه أمر لا يحتاج إلى التأكيد ، وبه تظهر رشاقة الاعتراض بتفريع
فلا تكن في مرية من لقائه على الخبر الذي قبله .
[ ص: 235 ] وأريد بقوله
آتينا موسى الكتاب أرسلنا
موسى ، فذكر إيتائه الكتاب كناية عن إرساله ، وإدماج ذكر الكتاب للتنويه بشأن
موسى وليس داخلا في
تنظير حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحال موسى - عليه السلام - في تكذيب قومه إياه لأن
موسى لم يكذبه قومه ألا ترى إلى قوله تعالى :
وجعلناه هدى لبني إسرائيل الآيات ، وليتأتى من وفرة المعاني في هذه الآية ما لا يتأتى بدون ذكر الكتاب .
وجملة
فلا تكن في مرية من لقائه معترضة وهو اعتراض بالفاء ، ومثله وارد كثيرا في الكلام كما تقدم عند قوله تعالى :
إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما الآية في سورة النساء . ويأتي عند قوله تعالى :
هذا فليذوقوه حميم وغساق في سورة ص .
والمرية : الشك والتردد . وحرف الظرفية مجاز في شدة الملابسة ، أي لا يكن الشك محيطا بك ومتمكنا منك ، أي لا تكن ممتريا في أنك مثله سينالك ما ناله من قومه .
والخطاب يجوز أن يكون للنبيء - صلى الله عليه وسلم - فالنهي مستعمل في طلب الدوام على انتفاء الشك فهو نهي مقصود منه التثبيت كقوله
فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء وليس لطلب إحداث انكفاف عن المرية لأنها لم تقع من قبل .
واللقاء : اسم مصدر لقي وهو الغالب في الاستعمال دون لقى الذي هو المصدر القياسي . واللقاء : مصادفة فاعل هذا الفعل مفعوله ، ويطلق مجازا على الإصابة كما يقال : لقيت عناء ، ولقيت عرق القربة ، وهو هنا مجاز ، أي لا تكن في مرية في أن يصيبك ما أصابه ، وضمير الغائب عائد إلى
موسى . واللقاء مصدر مضاف إلى فاعله ، أي مما لقي
موسى من قوم
فرعون من تكذيب ، أي من مثل ما لقي
موسى ، وهذا المضاف يدل عليه المقام أو يكون جاريا على التشبيه البليغ كقوله : هو البدر ، أي من لقاء كلقائه ، فيكون هذا في معنى آيات كثيرة في هذا المعنى وردت في القرآن كقوله تعالى :
ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا وقوله (
وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلفك إلا قليلا سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا )
[ ص: 236 ] هذا أحسن تفسير للآية وقريب منه مأثور عن
الحسن .
ويجوز أن يكون ضمير لقائه عائدا إلى
موسى على معنى : من مثل ما لقي
موسى من إرساله وهو أن كانت عاقبة النصر له على
قوم فرعون ، وحصول الاهتداء بالكتاب الذي أوتيه ، وتأييده باهتداء
بني إسرائيل . فيكون هذا المعنى
بشارة للنبيء - صلى الله عليه وسلم - بأن الله سيظهر هذا الدين .
ويجوز أن يكون ضمير لقائه عائدا إلى الكتاب كما في الكشاف لكن على أن يكون المعنى : فلا تكن في شك من لقاء الكتاب ، أي من أن تلقى من إيتائك الكتاب ما هو شنشنة تلقي الكتب الإلهية كما تلقاها
موسى . فالنهي مستعمل في التحذير ممن ظن أن لا يلحقه في إيتاء الكتاب من المشقة ما لقيه الرسل من قبله ، أي من جانب أذى قومه وإعراضهم .
ويجوز أن يكون الخطاب في قوله فلا تكن لغير معين وهو موجه للذين امتروا في أن القرآن أنزل من عند الله سواء كانوا المشركين أو الذين يلقنونهم من
أهل الكتاب ، أي لا تمتروا في إنزال القرآن على بشر فقد أنزل الكتاب على
موسى فلا تكونوا في مرية من إنزال القرآن على
محمد . وهذا كقوله تعالى :
إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس . فالنهي مستعمل في حقيقته من طلب الكف عن المرية في إنزال القرآن . وللمفسرين احتمالات أخرى كثيرة لا تسفر عن معنى بين ، ومن أبعدها حمل اللقاء على حقيقته وعود ضمير الغائب
لموسى وأن المراد لقاؤه ليلة الإسراء ، وعده الله به وحققه له في هذه الآية قبل وقوعه . قال
ابن عطية : وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15153المبرد حين امتحن
nindex.php?page=showalam&ids=14416أبا إسحاق الزجاج بهذه المسألة .
وضمير النصب في وجعلناه هدى يجوز أن يعود على الكتاب أو على
موسى وكلاهما سبب هدى ، فوصف بأنه هدى للمبالغة في حصول الاهتداء به وهو معطوف على
آتينا موسى الكتاب وما بينهما اعتراض . وهذا تعريض
[ ص: 237 ] بالمشركين إذ لم يشكروا نعمة الله على أن أرسل إليهم
محمد بالقرآن ليهتدوا فأعرضوا وكانوا أحق بأن يحرصوا على الاهتداء بالقرآن وبهدي
محمد - صلى الله عليه وسلم - .