أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون
عطف على جملة
ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها ، ولما كان ذلك التذكير متصلا كقوله (
وقالوا أاذا ضللنا في الأرض إنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون ) كان الهدي ، أي العلم المستفهم عنه بهذا الاستفهام شاملا للهدي إلى دليل البعث وإلى دليل العقاب على الإعراض عن التذكير فأفاد قوله
كم أهلكنا من قبلهم من القرون معنيين : أحدهما : إهلاك أمم كانوا قبلهم فجاء هؤلاء المشركون بعدهم ، وذلك تمثيل للبعث وتقريب لإمكانه . وثانيهما : إهلاك أمم كذبوا رسلهم ففيهم عبرة لهم أن يصيبهم مثل ما أصابهم .
والاستفهام إنكاري ، أي هم لم يهتدوا بدلائل النظر والاستدلال التي جاءهم بها القرآن فأعرضوا عنها ولا اتعظوا بمصارع الأمم الذين كذبوا أنبياءهم وفي مهلكهم آيات تزجر أمثالهم عن السلوك فيما سلكوه .
فضمير لهم عائد إلى المجرمين أو إلى من ذكر بآيات ربه ، و يهد من الهداية وهي الدلالة والإرشاد ، يقال : هداه إلى كذا .
وضمن فعل يهد معنى يبين ، فعدي باللام فأفاد هداية واضحة بينة . وقد تقدم نظيره في قوله تعالى :
أولم يهد للذين يرثون الأرض في سورة الأعراف . واختير فعل الهداية في هذه الآية لإرادة الدلالة الجامعة للمشاهدة ولسماع أخبار تلك الأمم تمهيدا لقوله في آخرها أفلا يسمعون ، ولأن كثرة
[ ص: 240 ] ذلك المستفادة من كم الخبرية إنما تحصل بترتيب الاستدلال في تواتر الأخبار ولا تحصل دفعة كما تحصل دلالة المشاهدات .
وفاعل يهد ما دلت عليه كم الخبرية من معنى الكثرة : ولا يجوز عند الجمهور جعل كم فاعل يهد لأن كم الخبرية اسم له الصدارة في الاستعمال إذ أصله استفهام فتوسع فيه .
ويجوز جعل كم فاعلا عند من لم يشترطوا أن تكون كم الخبرية في صدر الكلام . وجوز في الكشاف أن يكون الفاعل جملة كم أهلكنا على معنى الحكاية لهذا القول ، كما يقال : تعصم ( لا إله إلا الله ) الدماء والأموال ، أي هذه الكلمة أي النطق بها لتقلد الإسلام .
ويجوز أن يكون الفاعل ضمير الجلالة دالا عليه المقام ، أي ألم يهد الله لهم فإن الله بين لهم ذلك وذكرهم بمصارع المكذبين ، وتكون جملة كم أهلكنا على هذا استئنافا ، وتقدم
ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن في أول الأنعام .
ونيط الاستدلال هنا بالكثرة التي أفادتها كم الخبرية لأن تكرر حدوث القرون وزوالها أقوى دلالة من مشاهدة آثار أمة واحدة .
و
يمشون في مساكنهم حال من فاعل أولم يروا والمعنى : أنهم يمرون على المواضع التي فيها بقايا مساكنهم مثل
حجر ثمود وديار مدين فتعضد مشاهدة مساكنهم الأخبار الواردة عن استئصالهم وهي دلائل إمكان البعث كما قال تعالى :
وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون ،
ودلائل ما يحيق بالمكذبين للرسل ; وفي كل أمة وموطن دلائل كثيرة متماثلة أو متخالفة .
ولما كان الذي يؤثر من أخبار تلك الأمم وتقلبات أحوالها وزوال قوتها ورفاهيتها أشد دلالة وموعظة للمشركين - فرع عليه أفلا يسمعون استفهاما تقريريا مشوبا بتوبيخ لأن اجتلاب المضارع وهو يسمعون مؤذن بأن استماع أخبار تلك الأمم متكرر متجدد فيكون التوبيخ على الإقرار المستفهم عنه أوقع ، بخلاف ما بعده من قوله أفلا يبصرون . وقد شاع توجيه الاستفهام التقريري إلى المنفي ، وتقدم
[ ص: 241 ] عند قوله تعالى :
ألم يأتكم رسل منكم في سورة الأنعام وقوله
ألم يروا أنه لا يكلمهم في سورة الأعراف .