قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة
يظهر أن هذه الجملة واقعة موقع التعليل لجملة
لن ينفعكم الفرار إن فررتم الآية ; فكأنه قيل : فمن ذا الذي يعصمكم من الله ، أي فلا عاصم
[ ص: 292 ] لكم من نفوذ مراده فيكم . وإعادة فعل قل تكرير لأجل الاهتمام بمضمون الجملة .
والمعنى : لأن
قدرة الله وإرادته محيطة بالمخلوقات فمتى شاء عطل تأثير الأسباب أو عرقلها بالموانع فإن يشأ شرا حرم الانتفاع بالأسباب أو الاتقاء بالموانع فربما أتت الرزايا من وجوه الفوائد ، ومتى شاء خيرا خاصا بأحد لطف له بتمهيد الأسباب وتيسيرها حتى يلاقي من التيسير ما لم يكن مترقبا ، ومتى لم تتعلق مشيئته بخصوص أرسل الأحوال في مهيعها وخلى بين الناس وبين ما سببه في أحوال الكائنات فنال كل أحد نصيبا على حسب فطنته ومقدرته واهتدائه ، فإن الله أودع في النفوس مراتب التفكير والتقدير ; فأنتم إذا عصيتم الله ورسوله وخذلتم المؤمنين تتعرضون لإرادته بكم السوء فلا عاصم لكم من مراده ، فالاستفهام إنكاري في معنى النفي لاعتقادهم أن الحيلة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنفعهم وأن الفرار يعصمهم من الموت إن كان قتال .
وجملة
من ذا الذي يعصمكم إلخ جواب الشرط في قوله
إن أراد بكم سوءا إلخ ، دليل الجواب عند نحاة
البصرة .
والعصمة : الوقاية والمنع مما يكرهه المعصوم .
وقوبل السوء بالرحمة لأن المراد سوء خاص وهو السوء المجعول عذابا لهم على معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو سوء النقمة فهو سوء خاص مقدر من الله لأجل تعذيبهم إن أراده ، فيجري على خلاف القوانين المعتادة .
وعطف
أو أراد بكم رحمة على أراد بكم المجعول شرطا يقتضي كلاما مقدرا في الجواب المتقدم ، فإن إرادته الرحمة تناسب فعل يعصمكم لأن الرحمة مرغوبة . فالتقدير : أو يحرمكم منه إن أراد بكم رحمة ، فهو من دلالة الاقتضاء إيجازا للكلام ، كقول
الراعي :
إذا ما الغانيات برزن يوما وزججن الحواجب والعيونا
تقديره : وكحلن العيون ، لأن العيون لا تزجج ولكنها تكحل حين تزجج الحواجب وذلك من التزين .