ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد عطف على
ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهو مقابل جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فالمراد بالذين سعوا في الآيات الذين كفروا ، عدل عن جعل اسم الموصول ( كفروا ) لتصلح الجملة أن تكون تمهيدا لإبطال قول المشركين في الرسول - صلى الله عليه وسلم -
أفترى على الله كذبا أم به جنة ؛ لأن قولهم ذلك كناية عن بطلان ما جاءهم به من القرآن في زعمهم فكان جديرا بأن يمهد لإبطاله بشهادة أهل العلم بأن ما جاء به الرسول هو الحق دون غيره من باطل أهل الشرك الجاهلين ، فعطف هذه الجملة من عطف الأغراض ، وهذه طريقة في إبطال شبه أهل الضلالة والملاحدة بأن يقدم قبل ذكر الشبه ما يقابلها من إبطالها وربما سلك أهل الجدل طريقة أخرى هي تقديم الشبه ثم الكرور عليها
[ ص: 145 ] بالإبطال وهي طريقة عضد الدين في كتاب ( المواقف ) وقد كان بعض أشياخنا يحكي انتقاد كثير من أهل العلم طريقته فلذلك خالفها
التفتزاني في كتاب ( المقاصد ) .
والحق أن الطريقتين جادتان وقد سلكتا في القرآن .
ويجوز أن تكون جملة
ويرى الذين أوتوا العلم عطفا على جملة
والذين سعوا في آياتنا معاجزين فبعد أن أوردت جملة (
والذين سعوا ) لمقابلة جملة (
ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) الخ ، اعتبرت مقصودا من جهة أخرى فكانت بحاجة إلى رد مضمونها بجملة (
ويرى الذين أوتوا العلم ) للإشارة إلى أن الذين سعوا في الآيات أهل جهالة فيكون ذكرها بعدها تعقيبا للشبهة بما يبطلها وهي الطريقة الأخرى .
والرؤية علمية . واختير فعل الرؤية هنا دون ( ويعلم ) للتنبيه على أنه علم يقيني بمنزلة العلم بالمرئيات التي علمها ضروري ، ومفعولا ( يرى ) ( الذي أنزل ) و ( الحق ) . وضمير ( هو ) فصل يفيد حصر الحق في القرآن حصرا إضافيا ، أي لا ما يقوله المشركون مما يعارضون به القرآن ، ويجوز أيضا أن يفيد قصرا حقيقيا ادعائيا ، أي قصر الحقية المحض عليه لأن غيره من الكتب خلط حقها بباطل .
والذين أوتوا العلم فسره بعض المفسرين بأنهم علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى فيكون هذا إخبارا عما في قلوبهم كما في قوله تعالى في شأن الرهبان
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ، فهذا تحد للمشركين وتسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وليس احتجاج بسكوتهم على إبطاله في أوائل الإسلام قبل أن يدعوهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - ويحتج عليهم ببشائر رسلهم وأنبيائهم به فعاند أكثرهم حينئذ تبعا لعامتهم .
وبهذا تتبين أن إرادة علماء أهل الكتاب من هذه الآية لا يقتضي أن تكون نازلة
بالمدينة حتى يتوهم الذين توهموا أن هذه الآية مستثناة من مكيات السورة كما تقدم .
[ ص: 146 ] والأظهر أن المراد من
الذين أوتوا العلم من آمنوا بالنبيء - صلى الله عليه وسلم - من
أهل مكة لأنهم أوتوا القرآن . وفيه علم عظيم هم عالموه على تفاضلهم في فهمه والاستنباط منه فقد كان الواحد من
أهل مكة يكون فظا غليظا حتى إذا أسلم رق قلبه وامتلأ صدره بالحكمة وانشرح لشرائع الإسلام واهتدى إلى الحق وإلى الطريق المستقيم . وأول مثال لهؤلاء وأشهره وأفضله هو
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب للبون البعيد بين حالتيه في الجاهلية والإسلام . وهذا ما أعرب عنه قول
أبي خراش الهذلي خالطا فيه الجد بالهزل :
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل سوى العدل شيئا فاستراح العواذل
فإنهم كانوا إذا لقوا النبيء - صلى الله عليه وسلم - أشرقت عليهم أنوار النبوءة فملأتهم حكمة وتقوى . وقد قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - لأحد أصحابه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10342444لو كنتم في بيوتكم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة بأجنحتها . وبفضل ذلك ساسوا الأمة وافتتحوا الممالك وأقاموا العدل بين الناس مسلمهم وذميهم ومعاهدهم وملأوا أعين ملوك الأرض مهابة . وعلى هذا المحمل حمل (
الذين أوتوا العلم ) في سورة الحج ويؤيده قوله تعالى
وقال الذين أوتوا العلم والإيمان في سورة الروم .
وجملة
ويهدي إلى صراط العزيز الحميد في موضع المعطوف على المفعول الثاني ل - ( يرى ) . والمعنى : يرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هاديا إلى العزيز الحميد ، وهو من عطف الفعل على الاسم الذي فيه مادة الاشتقاق وهو الحق فإن المصدر في قوة الفعل ؛ لأنه إما مشتق أو هو أصل الاشتقاق . والعدول عن الوصف إلى صيغة المضارع لإشعارها بتجدد الهداية وتكررها . وإيثار وصفي ( العزيز الحميد ) هنا دون بقية الأسماء الحسنى إيماء إلى أن بقية المؤمنين حين يؤمنون بأن القرآن هو الحق والهداية استشعروا من الإيمان أنه صراط يبلغ به إلى العزة قال تعالى
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ، ويبلغ إلى الحمد ، أي الخصال الموجبة للحمد ، وهي الكمالات من الفضائل والفواضل .