قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين انتقال من دمغ المشركين بضعف آلهتهم وانتفاء جدواها عليهم في الدنيا والآخرة إلى إلزامهم بطلان عبادتها بأنها لا تستحق العبادة لأن مستحق العبادة هو الذي يرزق عباده فإن العبادة شكر ولا يستحق الشكر إلا المنعم
[ ص: 192 ] وهذا احتجاج بالدليل النظري بأن الله هو الرزاق يستلزم انفراده بإلهيته إذ لا يجوز أن ينفرد ببعض صفات الإلهية ويشارك في بعض آخر فإن الإلهية حقيقة لا تقبل التجزئة والتبعيض .
وأعيد الأمر بالقول لزيادة الاهتمام بالمقول فإن أصل الأمر بالقول في مقام التصدي للتبليغ دال على الاهتمام ، وإعادة ذلك الأمر زيادة في الاهتمام .
و " من " استفهام للتنبيه على الخطأ ولذلك أعقب بالجواب من طرف السائل بقوله قل الله لتحقق أنهم لا ينكرون ذلك الجواب كما في قوله تعالى قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار إلى قوله فسيقولون الله في سورة يونس . وتقدم نظير صدر الآية في سورة الرعد .
وعطف على الاستفهام إبراز المقصد بطريقة خفية توقع الخصم في شرك المغلوبية وذلك بترديد حالتي الفريقين بين حالة هدى وحالة ضلال لأن حالة كل فريق لما كانت على الضد من حال الفريق الآخر بين موافقة الحق وعدمها ، تعين أن أمر الضلال والهدى دائر بين الحالتين لا يعدوانهما . ولذلك جيء بحرف " أو " المفيد للترديد المنتزع من الشك .
وهذا اللون من الكلام يسمى الكلام المنصف وهو أن لا يترك المجادل لخصمه موجب تغيظ واحتداد في الجدال ، ويسمى في علم المناظرة إرخاء العنان للمناظر ومع ذلك فقرينة إلزامهم الحجة قرينة واضحة .
ومن لطائفه هنا أن اشتمل على إيماء إلى ترجيح أحد الجانبين في أحد الاحتمالين بطريق مقابلة الجانبين في ترتيب الحالتين باللف والنشر المرتب وهو أصل اللف .
فإنه ذكر ضمير جانب المتكلم وجماعته وجانب المخاطبين ، ثم ذكر حال الهدى وحال الضلال على ترتيب ذكر الجانبين ، فأومأ إلى أن الأولين موجهون إلى الهدى والآخرين موجهون إلى الضلال المبين ، لا سيما بعد قرينة الاستفهام ، وهذا أيضا من التعريض ، وهو أوقع من التصريح لا سيما في استنزال طائر الخصم .
وفيه أيضا تجاهل العارف فقد التأم في هذه الجملة ثلاثة محسنات من البديع ونكتة من البيان فاشتملت على أربع خصوصيات .
[ ص: 193 ] وجيء في جانب أصحاب الهدى بحرف الاستعلاء المستعار للتمكن تمثيلا لحال المهتدي بحال متصرف في فرسه يركضه حيث شاء متمكن من شيء بلغ به مقصده . وهي حالة مماثلة لحال المهتدي على بصيرة فهو يسترجع مناهج الحق في كل صوب . متسع النظر ، منشرح الصدر : ففيه تمثيلية مكنية وتبعية .
وجيء في جانب الضالين بحرف الظرفية المستعار لشدة التلبيس بالوصف تمثيلا لحالهم في إحاطة الضلال بهم بحال الشيء في ظرف محيط به لا يتركه يفارقه ولا يتطلع منه على خلاف ما هو فيه من ضيق يلازمه . وفيه أيضا تمثيلية تبعية ، وهذا ينظر إلى قوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا .
فحصل في الآية أربع استعارات وثلاثة محسنات من البديع وأسلوب بياني ، وحجة قائمة ، وهذا إعجاز بديع .
ووصف الضلال بالمبين دون وصف الهدى بالمبين لأن حقيقة الهدى مقول عليها بالتواطؤ وهو معنى قول أصحابنا
الأشاعرة : الإيمان لا يزيد ولا ينقص في ذاته وإنما زيادته بكثرة الطاعات ، وأما الكفر فيكون بإنكار بعض المعتقدات وبإنكار جميعها وكل ذلك يصدق عليه الكفر . ولذلك قيل كفر دون كفر : فوصف كفرهم بأنه أشد الكفر ، فإن المبين هو الواضح في جنسه البالغ غاية حده .