[ ص: 260 ] إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير لما كان في قوله
ولا يغرنكم بالله الغرور إبهام ما في المراد بالغرور عقب ذلك ببيانه بأن الغرور هو الشيطان ليتقرر المسند إليه بالبيان بعد الإبهام . فجملة
إن الشيطان لكم عدو تتنزل من جملة
ولا يغرنكم بالله الغرور منزلة البيان من المبين فلذلك فصلت ولم تعطف ، وهذا من دلالة ترتيب الكلام على إرادة المتكلم إذ يعلم السامع من وقوع وصف الشيطان عقب وصف الغرور أن الغرور هو الشيطان .
وأظهر اسم الشيطان في مقام الإضمار للإفصاح عن المراد بالغرور أنه الشيطان ، وإثارة العداوة بين الناس والشيطان معنى من معاني القرآن تصريحا وتضمينا ، وهو هنا صريح كما في قوله تعالى
وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو .
وتلك عداوة مودعة في جبلته كعداوة الكلب للهر لأن جبلة الشيطان موكولة بإيقاع الناس في الفساد وأسوأ العواقب في قوالب محسنة مزينة ، وشواهد ذلك تظهر للإنسان في نفسه وفي الحوادث حيثما عثر عليها وقد قال تعالى
يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة .
وتأكيد الخبر بحرف التأكد لقصد تحقيقه لأنهم بغفلتهم عن عداوة الشيطان كحال من ينكر أن الشيطان عدو .
وتقديم " لكم " على متعلقه للاهتمام بهذا المتعلق فرع عنه أن أمروا باتخاذه عدوا ، لأنهم إذا علموا أنه عدو لهم حق عليهم اتخاذه عدوا وإلا لكانوا في حماقة . وفيه تنبيه على وجوب عداوتهم الدعاة في الضلالة المستمدين من الشيطان .
والكلام على لفظ " عدو " تقدم عند قوله تعالى
فإن كان من قوم عدو لكم في سورة النساء .
واللام في " لكم " لام الاختصاص وهي التي تتضمنها الإضافة فلما قدم ما حقه أن يكون مضافا إليه صرح باللام ليحصل معنى الإضافة .
[ ص: 261 ] وإنما أمر الله باتخاذ العدو عدوا ولم يندب إلى العفو عنه والإغضاء عن عداوته كما أمر في قوله
فمن عفا وأصلح فأجره على الله ونحو ذلك مما تكرر في القرآن وكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لأن ما ندب إليه من العفو إنما هو فيما بين المسلمين بعضهم مع بعض رجاء صلاح حال العدو لأن عداوة المسلم عارضة لأغراض يمكن زوالها ولها حدود لا يخشى معها المضار الفادحة كما قال تعالى
ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ولذلك لم يأمر الله تعالى بمثل ذلك مع أعداء الدين فقال
لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء الآية ، بل لم يأمر الله تعالى بالعفو عن المحاربين من أهل الملة لأن مناوأتهم غير عارضة بل هي لغرض ابتزاز الأموال ونحو ذلك فقال
إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فعداوة الشيطان لما كانت جبلية لا يرجى زوالها مع من يعفو عنه لم يأمر الله إلا باتخاذه عدوا لأنه إذا لم يتخذ عدوا لم يراقب المسلم مكائده ومخادعته . ومن لوازم اتخاذه عدوا العمل بخلاف ما يدعوا إليه لتجنب مكائده ولمقته بالعمل الصالح .
فالإيقاع بالناس في الضر لا يسلم منه أولياؤه ولا أعداؤه ولكن أولياءه يضمر لهم العداوة ويأنس بهم لأنه يقضي بهم وطره وأما أعداؤه فهو مع عداوته لهم يشمئز وينفر ويغتاظ من مقاومتهم وساوسه إلى أن يبلغ حد الفرار من عظماء الأمة فقد قال النبيء - صلى الله عليه وسلم -
لعمر nindex.php?page=hadith&LINKID=10342462إيه يا بن الخطاب ما رآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك ، وورد في الصحيح
nindex.php?page=hadith&LINKID=10342463إذا أقيمت الصلاة أدبر الشيطان الحديث . وورد أنه
nindex.php?page=hadith&LINKID=10342464ما رئي الشيطان أخسأ وأحقر منه في يوم عرفة لما يرى من الرحمة .
وأعقب الأمر باتخاذ الشيطان عدوا بتحذير من قبول دعوته وحث على وجوب اليقظة لتغريره وتجنب توليه بأنه يسعى في ضر أوليائه وحزبه فيدعوهم إلى ما يوقعهم في السعير . وهذا يؤكد الأمر باتخاذه عدوا لأن أشد الناس تضررا به هم حزبه وأولياؤه .
وجملة
إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير تعليل لجملة
فاتخذوه عدوا ، وجيء بها في صيغة حصر لانحصار دعوته في الغاية المذكورة عقبها بلام العلة كيلا يتوهم أن دعوته تخلو من تلك الغاية ولو في وقت ما
[ ص: 262 ] وبهذا العموم الذي يقتضيه الحصر صارت الجملة أيضا في معنى التذييل لما قبله كله .
ومقتضى وقوع فعل " يدعو " في حيز القصر أن مفعوله وهو قوله " حزبه " هو المقصود من القصر ، أي أنه يدعو حزبه ولا يدعو غير حزبه ، والشيطان يدعو الناس كلهم سواء في ذلك حزبه ومن لم يركن إلى دعوته إلا أن أثر دعوته لا يظهر إلا في الذين يركنون له فيصيرون حزبه قال تعالى
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ، وحكى الله عن الشيطان بقوله
لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين فتعين أن في الكلام إيجاز حذف . والتقدير : إنما يدعو حزبه دعوة بالغة مقصده . والقرينة هي ما تقدم من التحذير ولو كان لا يدعو إلا حزبه لما كان لتحذير غيرهم فائدة .
واللام في قوله
ليكونوا من أصحاب السعير يجوز أن يكون لام العلة فإن الشيطان قد يكون ساعيا لغاية إيقاع الآدميين في العذاب نكاية بهم ، وهي علة للدعوة مخفية في خاطره الشيطاني وإن كان لا يجهر بها لأن إخفاءها من جملة كيده وتزيينه ، ويجوز أن تكون اللام لام العاقبة والصيرورة مثل
فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا . فقال
ابن عطية : لأنه لم يدعهم إلى السعير إنما اتفق أن صار أمرهم من دعائه إلى ذلك .
والسعير النار الشديدة ، وغلب في لسان الشرع على جهنم .