من كان يريد العزة فلله العزة جميعا مضى ذكر غرورين إجمالا في قوله تعالى : "
فلا تغرنكم الحياة الدنيا ،
ولا يغرنكم بالله الغرور " فأخذ في تفصيل الغرور الثاني من قوله تعالى "
إن الشيطان لكم عدو " وما استتبعه من التنبيه على أحجار كيده وانبعاث سموم مكره والحذر من مصارع متابعته وإبداء الفرق بين الواقعين في حبائله والمعافين من أدوائه ، بدارا بتفصيل الأهم والأصل ، وأبقى تفصيل الغرور الأول إلى هنا .
وإذ قد كان أعظم غرور المشركين في شركهم ناشئا عن قبول تعاليم كبرائهم وسادتهم وكان أعظم دواعي القادة إلى تضليل دهمائهم وصنائعهم ، هو ما يجدونه من العزة والافتتان بحب الرئاسة ، فالقادة يجلبون العزة لأنفسهم والأتباع يعتزون بقوة قادتهم ، لا جرم كانت إرادة العزة ملاك تكاتف المشركين بعضهم مع بعض ، وتألبهم على مناوأة الإسلام ، فوجه الخطاب إليهم لكشف اغترارهم بطلبهم العزة في الدنيا ، فكل مستمسك بحبل الشرك معرض عن التأمل في دعوة الإسلام ، لا يمسكه بذلك إلا إرادة العزة ، فلذلك نادى عليهم القرآن بأن من
[ ص: 270 ] كان ذلك صارفه عن الدين الحق فليعلم بأن العزة الحق في اتباع الإسلام وأن ما هم فيه من العزة كالعدم .
و " من " شرطية ، وجعل جوابها "
فلله العزة جميعا " ، وليس ثبوت العزة لله بمرتب في الوجود على حصول هذا الشرط فتعين أن ما بعد فاء الجزاء هو علة الجواب أقيمت مقامه واستغني بها عن ذكره إيجازا ، وليحصل من استخراجه من مطاوي الكلام تقرره في ذهن السامع ، والتقدير : من كان يريد العزة فليستجب إلى دعوة الإسلام ففيها العزة لأن العزة كلها لله تعالى ، فأما العزة التي يتشبثون بها فهي كخيط العنكبوت لأنها واهية بالية . وهذا أسلوب متبع في المقام الذي يراد فيه تنبيه المخاطب على خطأ في زعمه كما في قول
الربيع بن زياد العبسي في مقتل
مالك بن زهير العبسي :
من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار يجد النساء حواسرا يندبنه
بالليل قبل تبلج الإسفار
أراد أن من سره مقتل
مالك فلا يتمتع بسروره ولا يحسب أنه نال مبتغاه لأنه إن أتى ساحة نسوتنا انقلب سروره غما وحزنا إذ يجد دلائل أخذ الثأر من قاتله بادية له ، لأن العادة أن القتيل لا يندبه النساء إلا إذا أخذ ثأره . هذا ما فسره
المرزوقي وهو الذي تلقيته عن شيخنا
الوزير وفي البيتين تفسير آخر .
وقد يكون بالعكس وهو تثبيت المخاطب على علمه كقوله تعالى "
من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت " .
وقريب من هذا الاستعمال ما يقصد به إظهار الفرق بين من اتصف بمضمون الشرط ومن اتصف بمضمون الجزاء كقول
النابغة :
فمن يكن قد قضى من خلة وطرا فإنني منك ما قضيت أوطاري
وقول
ضابي بن الحارث :
ومن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
وقول
الكلابي :
فمن يكلم يغرض فإني وناقتي بحجر إلى أهل الحمى غرضان
[ ص: 271 ] فتقديم المجرور يفيد قصرا وهو قصر ادعائي ، لعدم الاعتداد بما للمشركين من عزة ضئيلة ، أي فالعزة لله لا لهم .
ومنه ما يكون فيه ترتيب الجواب على الشرط في الوقوع ، وهو الأصل كقوله تعالى "
من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء " الآية ، وقوله "
من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها " .
و " جميعا " أفادت الإحاطة فكانت بمنزلة التأكيد للقصر الادعائي فحصلت ثلاثة مؤكدات ، فالقصر بمنزلة تأكيدين و " جميعا " بمنزلة تأكيد . وهذا قريب من قوله أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا فإن فيه تأكيدين : تأكيدا بـ " إن " وتأكيدا بـ " جميعا " لأن تلك الآية نزلت في وقت قوة الإسلام فلم يحتج فيها إلى تقوية التأكيد . وتقدم الكلام على " جميعا " عند قوله تعالى " ويوم يحشرهم جميعا " في سورة سبأ .
وانتصب جميعا على الحال من العزة وكأنه فعيل بمعنى مفعول ، أي العزة كلها لله لا يشذ شيء منها فيثبت لغيره ، لأن العزة المتعارفة بين الناس كالعدم إذ لا يخلو صاحبها من احتياج ووهن والعزة الحق لله .
وتعريف العزة تعريف الجنس . والعزة : الشرف والحصانة من أن ينال بسوء . فالمعنى : من كان يريد العزة فانصرف عن دعوة الله إبقاء على ما يخاله لنفسه من عزة ، فهو مخطئ إذ لا عزة له ، فهو كمن أراق ماء للمع سراب . والعزة الحق لله الذي دعاهم على لسان رسوله . وعزة المولى ينال حزبه وأولياؤه حظا منها ، فلو اتبعوا أمر الله فالتحقوا بحزبه صارت لهم عزة الله وهي العزة الدائمة ، فإن عزة المشركين يعقبها ذل الانهزام والقتل والأسر في الدنيا وذل الخزي والعذاب في الآخرة ، وعزة المؤمنين في تزايد الدنيا ولها درجات كمال في الآخرة .