لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون لما جرى ذكر الشمس والقمر في معرض
الآيات الدالة على انفراده تعالى بالخلق والتدبير ، وعلى صفات إلهيته التي من متعلقاتها
تعلق صفة القدرة بآية الشمس وسيرها ، والقمر وسيره ، وقد سماها بعض المتكلمين صفات الأفعال ، وكان الناس يعرفون تقارب الشمس والقمر فيما يراه الراءون ، وكانوا يقدرون سيرهما بأسمات معلمة بعلامات نجومية تسمى بروجا بالنسبة لسير الشمس ، وتسمى منازل بالنسبة لسير القمر ، وكانوا يعلمون شدة قرب المنازل القمرية من البروج الشمسية فإن كل برج تسامته منزلتان أو ثلاث منازل ، وبعض نجوم المنازل هي أجزاء من نجوم البروج ، زادهم الله عبرة وتعليما بأن للشمس سيرا لا يلاقي سير القمر ، وللقمر سيرا لا يلاقي سير الشمس ولا يمر أحدهما بطرائق مسير الآخر وأن ما يتراءى للناس من شدة الشمس والقمر في جو واحد وفي حجمين متقاربين ، وما يتراءى لهم من تقارب نجوم بروج الشمس ونجوم منازل القمر ، إن هو إلا من تخيلات الأبصار وتفاوت المقادير بين الأجرام والأبعاد .
فالكرة العظيمة كالشمس تبدو مقاربة لكرة القمر في المرأى وإنما ذلك من تباعد الأبعاد ، فأبعاد فلك الشمس تفوت أبعاد فلك القمر بمئات الملايين من الأميال ، حتى يلوح لنا حجم الشمس مقاربا لحجم القمر .
فبين الله أنه نظم سير الشمس والقمر على نظام يستحيل معه اتصال إحدى الكرتين بالأخرى لشدة الأبعاد بين مداريهما .
[ ص: 24 ] فمعنى
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر نفي انبغاء ذلك ، أي : نفي تأتيه ؛ لأن انبغى مطاوع بغى الذي هو بمعنى طلب ، فانبغى يفيد أن الشيء طلب فحصل للذي طلبه ، يقال : بغاه فانبغى له ، فإثبات الانبغاء يفيد التمكن من الشيء فلا يقتضي وجوبا ، ونفي الانبغاء يفيد نفي إمكانه ولذلك يكنى به عن الشيء المحظور . يقال : لا ينبغي لك كذا ، ففرق ما بين قولك : ينبغي أن لا تفعل كذا ، وبين قولك : لا ينبغي لك أن تفعل كذا ، قال تعالى :
قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء وتقدم قوله تعالى
وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا في سورة مريم ، ومنه قوله تعالى
وما علمناه الشعر وما ينبغي له في هذه السورة .
والإدراك : اللحاق والوصول إلى البغية ، فقوله ( أن تدرك ) فاعل ( ينبغي ) فأفاد الكلام نفي انبغاء إدراك الشمس القمر . والمعنى : نفي أن تصطدم الشمس بالقمر ، خلافا لما يبدو من قرب منازلهما فإن ذلك من المسامتة لا من الاقتراب .
وصوغ هذا بصيغة الإخبار عن المسند إليه بالمسند الفعلي لإفادة تقوي حكم النفي فذلك أبلغ في الانتفاء مما لو قيل : لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر .
وافتتاح الجملة بحرف النفي قبل ذكر الفعل المنفي ليكون النفي متقررا في ذهن السامع أقوى مما لو قيل : الشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر ، فكان في قوله
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر خصوصيتان .
ولما ذكر الشمس والقمر ، وكانت الشمس مقارنة للنهار في مخيلات البشر ، وكان القمر مقارنا لليل ، وكان في نظام الليل والنهار منافع للناس اعترض بذكر نظام الشمس والقمر أثناء الاعتبار بنظام الليل والنهار . ومعنى
ولا الليل سابق النهار أن الليل ليس بمفلت للنهار ، فالسبق بمعنى التخلص والنجاة ، كقول
مرة بن عداء الفقعسي :
كأنك لم تسبق من الدهـر مـرة إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب
[ ص: 25 ] وقوله تعالى
أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا في سورة العنكبوت ، والمعنى : أن انسلاخ النهار على الليل أمر مسخر لا قبل لليل أن يتخلف عنه .
ولا يستقيم تفسير السبق هنا بمعناه المشهور وهو الأولية بالسير لأن ذلك لا يتصور في تداول الليل والنهار ، ولا أن يكون المراد بالسبق ابتداء التكوين إذ لا يتعلق بذلك غرض مهم في الآية ، على أن الشأن أن تكون الظلمة أسبق في التكوين .
والغرض
التذكير بنعمة الليل ونعمة النهار فإن لكليهما فوائد للناس فلو تخلص أحدهما من الآخر فاستقر في الأفق لتعطلت منافع جمة من حياة الناس والحيوان .
وفي الكلام اكتفاء ، أي لأن التقدير : ولا القمر يدرك الشمس ، ولا النهار سابق الليل .
وقوله
وكل في فلك يسبحون عطف على جملة
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ، والواو عاطفة ترجيحا لجانب الإخبار بهذه الحقيقة على جانب التذييل ، وإلا فحق التذييل الفصل .
وما أضيف إليه " كل " محذوف ، وتنوين " كل " تنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف ، فالتقدير : وكل الكواكب .
وزيدت قرينة السياق تأكيدا بضمير الجمع في قوله " يسبحون " مع أن المذكور من قبل شيئان لا أشياء ، وبهذا التعميم صارت الجملة في معنى التذييل .
والفلك : الدائرة المفروضة في الخلاء الجوي لسير أحد الكواكب سيرا مطردا لا يحيد عنه ، فإن أهل الأرصاد الأقدمين لما رصدوا تلك المدارات وجدوها لا تتغير ووجدوا نهايتها تتصل بمبتداها فتوهموها طرائق مستديرة تسير فيها الكواكب كما تتقلب الكرة على الأرض وربما توسعوا في التوهم فظنوها طرائق صلبة ترتكز عليها الكواكب في سيرها مجرورة بسلاسل وكلاليب وكان ذلك في معتقد القبط
بمصر .
[ ص: 26 ] وسمى العرب تلك الطرائق أفلاكا وأحدها فلك اشتقوا له اسما من اسم فلكة المغزل ، وهي عود في أعلاه خشبة مستديرة متبطحة مثل التفاحة الكبيرة ، تلف المرأة عليها خيوط غزلها التي تفتلها لتديرها بكفيها . فتلتف عليها خيوط الغزل ، فتوهموا الفلك جسما كرويا ، وتوهموا الكواكب موضوعة عليه تدور بدورته ولذلك قدروا الزمان بأنه حركة الفلك . وسموا ما بين مبدأ المدتين حتى ينتهي إلى حيث ابتدأ
دورة الفلك ولكن القرآن جاراهم في الاسم اللغوي لأن ذلك مبلغ اللغة وأصلح لهم ما توهموا بقوله يسبحون ، فبطل أن تكون أجرام الكواكب ملتصقة بأفلاكها ولزم من كونها سابحة أن طرائق سيرها دوائر وهمية لأن السبح هنا سبح في الهواء لا في الماء ، والهواء لا تخطط فيه الخطوط ولا الأخاديد .
وجيء بضمير يسبحون ضمير جمع مع أن المتقدم ذكره شيئان هما الشمس والقمر لأن المراد إفادة تعميم هذا الحكم للشمس والقمر وجميع الكواكب وهي حقيقة علمية سبق بها القرآن .
وجملة " كل في فلك " فيها محسن الطرد والعكس فإنها تقرأ من آخرها كما تقرأ من أولها .