بل عجبت ويسخرون وإذا ذكروا لا يذكرون وإذا رأوا آية يستسخرون " بل " للإضراب الانتقالي من التقرير التوبيخي إلى أن حالهم عجب .
وقرأ الجمهور (
بل عجبت ) بفتح التاء للخطاب . والخطاب للنبيء - صلى الله عليه وسلم -
[ ص: 96 ] المخاطب بقوله (
فاستفتهم ) ، وفعل المضي مستعمل في معنى الأمر وهو من استعمال الخبر في معنى الطلب للمبالغة كما يستعمل الخبر في إنشاء صيغ العقود نحو : بعت . والمعنى : اعجب لهم .
ويجوز أن يكون العجب قد حصل من النبيء - صلى الله عليه وسلم - لما رأى إعراضهم وقلة إنصافهم فيكون الخبر مستعملا في حقيقته .
ويجوز أن يكون الكلام على تقدير همزة الاستفهام ، أي بل أعجبت ؟ .
والمعنى على الجميع : أن حالهم حرية بالتعجب كقوله تعالى (
وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا إنا لفي خلق جديد ) في سورة الرعد .
وقرأ
حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي وخلف "
بل عجبت " بضم التاء للمتكلم فيجوز أن يكون المراد : أن الله أسند العجب إلى نفسه . ويعرف أنه ليس المراد حقيقة العجب المستلزمة الروعة والمفاجأة بأمر غير مترقب بل المراد التعجيب أو الكناية عن لازمه ، وهو استعظام الأمر المتعجب منه . وليس لهذا الاستعمال نظير في القرآن ولكنه تكرر في كلام النبوءة منه قوله - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=hadith&LINKID=2002193إن الله ليعجب من رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة ، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل ، ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد رواه
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي بهذا اللفظ . يعني ثم يسلم القاتل الذي كان كافرا فيقاتل فيستشهد في سبيل الله .
وقوله في حديث الأنصاري وزوجه إذ أضافا رجلا فأطعماه عشاءهما وتركا صبيانهما
nindex.php?page=hadith&LINKID=2002194عجب الله من فعالكما .
ونزل فيه (
ويؤثرون على أنفسهم ) ، وقوله
nindex.php?page=hadith&LINKID=2002195عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل إنما عدل عن الصريح وهو الاستعظام لأن الكناية أبلغ من التصريح ، والصارف عن معنى اللفظ الصريح في قوله ( عجبت ) ما هو معلوم من مخالفته تعالى للحوادث .
[ ص: 97 ] ويجوز أن يكون أطلق ( عجبت ) على معنى المجازاة على عجبهم لأن قوله
فاستفتهم أهم أشد خلقا دل على أنهم عجبوا من إعادة الخلق فتوعدهم الله بعقاب على عجبهم . وأطلق على ذلك العقاب فعل ( عجبت ) كما أطلق على عقاب مكرهم المكر في قوله
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين .
والواو في ( ويسخرون ) واو الحال ، والجملة في موضع الحال من ضمير ( عجبت ) أي كان أمرهم عجبا في حال استسخارهم بك في استفتائهم .
وجيء بالمضارع في يسخرون لإفادة تجدد السخرية ، وأنهم لا يرعوون عنها .
والسخرية : الاستهزاء ، وتقدمت في قوله تعالى
فحاق بالذين سخروا منهم في سورة الأنعام .
والتذكير بأن يذكروا ما يغفلون عنه من قدرة الله تعالى عليهم ، ومن تنظير حالهم بحال الأمم التي استأصلها الله تعالى فلا يتعظوا بذلك عنادا فأطلق ( لا يذكرون ) على أثر الفعل ، أي لا يحصل فيهم أثر تذكر ما يذكرون به وإن كانوا قد ذكروا ذلك .
ويجوز أن يراد ( لا يذكرون ) ما ذكروا به ، أي لشدة إعراضهم عن التأمل فيما ذكروا به لاستقرار ما ذكروا به في عقولهم فلا يذكرون ما هم غافلون عنه ، على حد قوله تعالى (
أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام ) .
(
وإذا رأوا آية ) أي خارق عادة أظهره الرسول - صلى الله عليه وسلم - دالا على صدقه لأن الله تعالى لا يغير نظام خلقته في العالم إلا إذا أراد تصديق الرسول لأن خرق العادة من خالق العادات وناظم سنن الأكوان قائم مقام قوله : صدق هذا الرسول فيما أخبر به عني . وقد رأوا انشقاق القمر ، فقالوا : هذا سحر ، قال تعالى
اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر .
[ ص: 98 ] و ( يستسخرون ) مبالغة في السخرية ، فالسين والتاء للمبالغة كقوله (
فاستجاب لهم ربهم ) وقوله (
فاستمسك بالذي أوحي إليك ) .
فالسخرية المذكورة في قوله ويسخرون سخرية من محاجة النبيء - صلى الله عليه وسلم - إياهم بالأدلة .
والسخرية المذكورة هنا سخرية من ظهور الآيات المعجزات ، أي يزيدون في السخرية بمن ظن منهم أن ظهور المعجزات يحول بهم عن كفرهم ، ألا ترى أنهم قالوا (
إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها ) .