[ ص: 489 ] وقال لهم نبيئهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم .
أعاد الفعل ، في قوله
وقال لهم نبيهم للدلالة على أن كلامه هذا ليس من بقية كلامه الأول ، بل هو حديث آخر متأخر عنه : وذلك أنه بعد أن حذرهم عواقب الحكومة الملكية ، وحذرهم التولي عن القتال ، تكلم معهم كلاما آخر في وقت آخر .
وتأكيد الخبر بإن : إيذان بأن من شأن هذا الخبر أن يتلقى بالاستغراب والشك ، كما أنبأ عنه قولهم أنى يكون له الملك علينا .
ووقع
في سفر صمويل ، في الإصحاح التاسع ، أنه لما صمم
بنو إسرائيل في سؤالهم أن يعين لهم ملكا ، صلى لله تعالى فأوحى الله إليه : أن أجبهم إلى كل ما طلبوه ، فأجابهم وقال لهم : اذهبوا إلى مدنكم ، ثم أوحى الله إليه صفة الملك الذي سيعينه لهم ، وأنه لقيه رجل من
بنيامين اسمه
شاول بن قيس ، فوجد فيه الصفة : وهي أنه أطول القوم ، ومسحه
صمويل ملكا على إسرائيل ، إذ صب على رأسه زيتا ، وقبله وجمع
بني إسرائيل ، بعد أيام ، في
بلد المصفاة ، وأحضره ، وعينه لهم ملكا ، وذلك سنة 1095 قبل المسيح .
وهذا الملك هو الذي سمي في الآية (
طالوت ) وهو (
شاول )
وطالوت لقبه ، وهو وزن اسم مصدر : من الطول ، على وزن فعلوت مثل جبروت وملكوت ورهبوت ورغبوت ورحموت ، ومنه طاغوت أصله طغيوت فوقع فيه قلب مكاني ،
وطالوت وصف به للمبالغة في طول قامته ، ولعله جعل لقبا له في القرآن للإشارة إلى الصفة التي عرف بها
لصمويل ، في الوحي الذي أوحى الله إليه ، كما تقدم ، ولمراعاة التنظير بينه وبين
جالوت غريمه في الحرب ، أو كان ذلك لقبا له في قومه قبل أن يؤتى الملك ، وإنما يلقب بأمثال هذا اللقب ، من كان من العموم . ووزن فعلوت وزن نادر في العربية ولعله من بقايا العربية القديمة السامية ، وهذا هو الذي يؤذن به منعه من الصرف ، فإن منعه من الصرف لا علة
[ ص: 490 ] له إلا العلمية والعجمة ، وجزم
الراغب بأنه اسم عجمي ولم يذكر في كتب اللغة لذلك ولعله عومل معاملة الاسم العجمي لما جعل علما على هذا العجمي في العربية ، فعجمته عارضة وليس هو عجميا بالأصالة ، لأنه لم يعرف هذا الاسم في لغة
العبرانيين كداود وشاول ، ويجوز أن يكون منعه من الصرف لمصيره بالإبدال إلى شبه وزن فاعول ، ووزن فاعول في الأعلام عجمي ، مثل
هاروت وماروت وشاول وداود ، ولذلك منعوا
قابوس من الصرف ، ولم يعتدوا باشتقاقه من القبس ، وكأن عدول القرآن عن ذكره باسمه
شاول لثقل هذا اللفظ وخفة
طالوت .
وأنى في قوله
أنى يكون له الملك علينا بمعنى كيف ، وهو استفهام مستعمل في التعجب ، تعجبوا من جعل مثله ملكا ، وكان رجلا فلاحا من بيت حقير ، إلا أنه كان شجاعا ، وكان أطول القوم ، ولما اختاره
صمويل لذلك ، فتح الله عليه بالحكمة ، وتنبأ نبوءات كثيرة ، ورضيت به بعض إسرائيل ، وأباه بعضهم ، ففي سفر
صمويل : أن الذين لم يرضوا به هم
بنو بليعال والقرآن ذكر أن
بني إسرائيل قالوا : أنى يكون له الملك علينا ، وهو الحق ; لأنهم لا بد أن يكونوا قد ظنوا أن ملكهم سيكون من كبرائهم وقوادهم . والسر في اختيار نبيهم لهم هذا الملك : أنه أراد أن تبقى لهم حالتهم الشورية بقدر الإمكان ، فجعل ملكهم من عامتهم لا من سادتهم ، لتكون قدمه في الملك غير راسخة ، فلا يخشى منه أن يشتد في استعباد أمته ، لأن الملوك في ابتداء تأسيس الدول يكونون أقرب إلى الخير ، لأنهم لم يعتادوا عظمة الملك ولم ينسوا مساواتهم لأمثالهم ، وما يزالون يتوقعون الخلع ، ولهذا كانت
الخلافة سنة الإسلام . وكانت الوراثة مبدأ الملك في الإسلام : إذ عهد
nindex.php?page=showalam&ids=33معاوية بن أبي سفيان لابنه
يزيد بالخلافة بعده ، والظن به أنه لم يكن يسعه يومئذ إلا ذلك ; لأن شيعة
بني أمية راغبون فيه ، ثم كانت قاعدة الوراثة للملك في دول الإسلام وهي من تقاليد الدول من أقدم عصور التاريخ . وهي سنة سيئة ولهذا تجد مؤسسي الدول أفضل ملوك عائلاتهم . وقواد
بني إسرائيل لم يتفطنوا لهذه الحكمة لقصر أنظارهم ، وإنما نظروا إلى قلة جدته ، فتوهموا ذلك مانعا من تمليكه عليهم ، ولم يعلموا أن الاعتبار بالخلال النفسانية ، وأن
الغنى غنى النفس لا وفرة المال وماذا تجدي وفرته إذا لم يكن ينفقه في المصالح ، وقد قال الراجز :
قدني من نصر الخبيبين قدي ليس الإمام بالشحيح الملحد
[ ص: 491 ] فقولهم "
ونحن أحق بالملك " جملة حالية ، والضمير من المتكلمين ، وهم قادة
بني إسرائيل وجعلوا الجملة حالا للدلالة على أنهم لما ذكروا أحقيتهم بالملك لم يحتاجوا إلى الاستدلال على ذلك ; لأن هذا الأمر عندهم مسلم معروف ، إذ هم قادة وعرفاء ،
وشاول رجل من السوقة ، فهذا تسجيل منهم بأرجحيتهم عليه ، وقوله
ولم يؤت سعة من المال معطوفة على جملة الحال فهي حال ثانية . وهذا إبداء مانع فيه من ولايته الملك في نظرهم ، وهو أنه فقير ، وشأن الملك أن يكون ذا مال ليكفي نوائب الأمة فينفق المال في العدد ، والعطاء ، وإغاثة الملهوف فكيف يستطيع من ليس بذي مال أن يكون ملكا ، وإنما قالوا هذا لقصورهم في معرفة سياسة الأمم ونظام الملك ; فإنهم رأوا الملوك المجاورين لهم في بذخة وسعة ، فظنوا ذلك من شروط الملك .
ولذا أجابهم نبيئهم بقوله
إن الله اصطفاه عليكم رادا على قولهم
ونحن أحق بالملك منه فإنهم استندوا إلى اصطفاء الجمهور إياهم فأجابهم بأنه أرجح منهم لأن الله اصطفاه ، وبقوله
وزاده بسطة في العلم والجسم رادا عليهم قولهم :
ولم يؤت سعة من المال ، أي زاده عليكم بسطة في العلم والجسم ، فأعلمهم نبيئهم أن
الصفات المحتاج إليها في سياسة أمر الأمة ترجع إلى أصالة الرأي ، وقوة البدن ; لأنه بالرأي يهتدي لمصالح الأمة ، لا سيما في وقت المضائق ، وعند تعذر الاستشارة ، أو عند خلاف أهل الشورى وبالقوة يستطيع الثبات في مواقع القتال فيكون بثباته ثبات نفوس الجيش ، وقدم النبيء في كلامه العلم على القوة لأن وقعه أعظم ، قال
أبو الطيب :
الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني
فالعلم المراد هنا ، هو علم تدبير الحرب وسياسة الأمة ، وقيل : هو علم النبوءة ، ولا يصح ذلك لأن
طالوت لم يكن معدودا من أنبيائهم .
ولم يجبهم نبيئهم عن قوله
ولم يؤت سعة من المال اكتفاء بدلالة اقتصاره على قوله :
وزاده بسطة في العلم والجسم ; فإنه ببسطة العلم وبالنصر يتوافر له المال ; لأن المال تجلبه الرعية كما قال
أرسططاليس ، ولأن الملك ولو كان ذا ثروة ، فثروته لا تكفي لإقامة أمور المملكة ولهذا لم يكن من شرط ولاة الأمور من الخليفة فما دونه أن يكون ذا سعة ، وقد ولي على الأمة
أبو بكر وعمر وعلي ولم يكونوا ذوي يسار . وغنى الأمة في بيت مالها ومنه تقوم مصالحها ، وأرزاق ولاة أمورها .
[ ص: 492 ] والبسطة اسم من البسط وهو السعة والانتشار ، فالبسطة الوفرة والقوة من الشيء ، وسيجيء كلام عليها عند قوله تعالى
وزادكم في الخلق بسطة في الأعراف .
وقوله
والله يؤتي ملكه من يشاء يحتمل أن يكون من كلام النبيء ، فيكون قد رجع بهم إلى التسليم إلى أمر الله ، بعد أن بين لهم شيئا من حكمة الله في ذلك .
ويحتمل أن يكون تذييلا للقصة من كلام الله تعالى ، وكذلك قوله
والله واسع عليم .