وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين لما نجا
إبراهيم من نارهم صمم على الخروج من بلده
( أور الكلدانيين ) .
وهذه أول هجرة في سبيل الله للبعد عن عبادة غير الله . والتوراة بعد أن طوت سبب أمر الله إياه بالخروج ذكر فيها أنه خرج قاصدا بلاد
حران في
أرض كنعان ( وهي بلاد
الفينيقيين ) .
والظاهر : أن هذا القول قاله علنا في قومه ليكفوا عن أذاه ، وكان الأمم الماضون يعدون الجلاء من مقاطع الحقوق ، قال
زهير :
[ ص: 147 ] وإن الحق مقطعه ثلاث يمين أو نفار أو جلاء
ولذلك لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة من
مكة لم تتعرض له
قريش في بادئ الأمر ، ثم خافوا أن تنتشر دعوته في الخارج فراموا اللحاق به فحبسهم الله عنه .
ويحتمل أن يكون قال ذلك في أهله الذين يريد أن يخرج بهم معه ، فمعنى
ذاهب إلى ربي مهاجر إلى حيث أعبد ربي وحده ولا أعبد آلهة غيره ولا أفتن في عبادته كما فتنت في بلدهم .
ومراد الله أن يفضي إلى بلوغ مكة ليقيم هنالك أول مسجد لإعلان توحيد الله ، فسلك به المسالك التي سلكها حتى بلغ به
مكة وأودع بها أهلا ونسلا ، وأقام بها قبيلة دينها التوحيد ، وبنى لله معبدا ، وجعل نسله حفظة بيت الله ، ولعل الله أطلعه على تلك الغاية بالوحي أو سترها عنه حتى وجد نفسه عندها ، فلذلك أنطقه بأن ذهابه إلى الله نطقا عن علم أو عن توفيق .
وجملة " سيهدين " يجوز أن تكون حالا وهو الأظهر ؛ لأنه أراد إعلام قومه بأنه واثق بربه وأنه لا تردد له في مفارقتهم ، ويجوز أن تكون استئنافا ، فعلى الأول هي حال من اسم الجلالة ، ولا يمنع من جعل الجملة حالا اقترانها بحرف الاستقبال ، فإن حرف الاستقبال يدل على أنها حال مقدرة ، والتقدير : إني ذاهب إلى ربي مقدرا ، كما لم يمتنع مجيء الحال معمولا لعامل مستقبل كما في قوله تعالى
سيدخلون جهنم داخرين وقوله تعالى
إن معي ربي سيهدين وقول
سعد بن ناشب :
سأغسل عني العار بالسيف جالبا علي قضاء الله ما كان جالبا
وامتناع اقتران جملة الحال بعلامة الاستقبال في الإثبات أو النفي مذهب بصري ، وهو ناظر إلى غالب أحوال استعمال الحال ، وجوازه مذهب كوفي كما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري في الإنصاف ، والحق في جانب نحاة الكوفة . وقد تلقف المذهب البصري معظم علماء العربية وتحير المحققون منهم في تأييده ، فلجأوا إلى أن علته استبشاع الجمع بين كون الكلمة حالا وبين اقترانها بعلامة الاستقبال . ونبينه بأن الحال ما سميت حالا إلا لأن المراد منها ثبوت وصف في الحال ، وهذا ينافي اقترانها
[ ص: 148 ] بعلامة الاستقبال تنافيا في الجملة . هذا بيان ما وجه به الرضي مذهب البصريين ، وتبعه
التفتزاني في مبحث الحال من شرحه المطول على تلخيص المفتاح . وفي مبحث الاستفهام ب ( هل ) منه . وقد زيف السيد
الجرجاني في حاشية المطول ذلك التوجيه في مبحث الحال تزييفا رشيقا .
ويجوز أن تكون جملة " سيهدين " مستأنفة ، وبذلك أجاب نحاة
البصرة عن تمسك نحاة
الكوفة بالآية في جواز اقتران الحال بعلم الاستقبال ، فالاستئناف بياني بيانا لسبب هجرته .
وجملة
رب هب لي من الصالحين بقية قوله ، فإنه بعد أن أخبر أنه مهاجر استشعر قلة أهله وعقم امرأته ، وثار ذلك الخاطر في نفسه عند إزماع الرحيل لأن الشعور بقلة الأهل عند مفارقة الأوطان يكون أقوى ؛ لأن المرء إذا كان بين قومه كان له بعض السلو بوجود قرابته وأصدقائه .
ومما يدل على أنه سأل النسل ما جاء في سفر التكوين ( الإصحاح الخامس عشر ) " وقال أبرام : إنك لم تعطني نسلا وهذا ابن بيتي ( بمعنى مولاه ) وارث لي ( لأنهم كانوا إذا مات عن غير نسل ورثه مواليه ) " . وكان عمر
إبراهيم حين خرج من بلاده نحوا من سبعين سنة .
وقال في الكشاف : لفظ الهبة غلب في الولد . لعله يعني أن هذا اللفظ غلب في القرآن في الولد ، ولا أحسبه غلب فيه في كلام العرب لأني لم أقف عليه ، وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى
ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا .
فحذف مفعول الفعل لدلالة الفعل عليه .
ووصفه بأنه من الصالحين لأن نعمة الولد تكون أكمل إذا كان صالحا ، فإن صلاح الأبناء قرة عين للآباء ، ومن صلاحهم برهم بوالديهم .