وقال لهم نبيئهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين .
أراد نبيئهم أن يتحداهم بمعجزة تدل على أن الله تعالى اختار لهم
شاول ملكا ، فجعل لهم آية تدل على ذلك : وهي أن يأتيهم التابوت ، أي تابوت العهد ، بعد أن كان في يد الفلسطينيين كما تقدم ، وهذا إشارة إلى قصة تيسير الله تعالى لإرجاع التابوت إلى
بني إسرائيل بدون قتال : وذلك أن الفلسطينيين أرجعوا التابوت إلى
بني إسرائيل في قصة ذكرت في سفر
صمويل : حاصلها أن
التابوت بقي سبعة أشهر في بلاد فلسطين موضوعا في بيت صنمهم
داجون ورأى الفلسطينيون آيات من سقوط صنمهم على وجهه ، وانكسار يديه ورأسه ، وإصابتهم بالبواسير في
أشدود ، وتخومها ، وسلطت عليهم الجرذان تفسد الزروع ، فلما رأوا ذلك استشاروا الكهنة ، فأشاروا عليهم بإلهام من الله بإرجاعه إلى إسرائيل لأن إله إسرائيل قد غضب لتابوته وأن يرجعوه مصحوبا بهدية : صورة خمس بواسير من ذهب ، وصورة خمس فيران من ذهب ، على عدد مدن الفلسطينيين العظيمة :
أشدود ،
وغزة ،
وأشقلون ،
وجت ،
وعفرون . ويوضع التابوت على عجلة جديدة تجرها بقرتان ومعه صندوق به التماثيل الذهبية ، ويطلقون البقرتين تذهبان بإلهام إلى أرض إسرائيل ، ففعلوا واهتدت البقرتان إلى أن بلغ التابوت والصندوق إلى يد
اللاويين في
تخم بيت شمس : هكذا وقع في سفر
صمويل غير أن ظاهر سياقه أن رجوع التابوت إليهم كان قبل تمليك
شاول ، وصريح القرآن يخالف ذلك ، ويمكن تأويل كلام السفر بما يوافق هذا بأن تحمل الحوادث على غير ترتيبها في الذكر ، وهو كثير في كتابهم . والذي يظهر لي
[ ص: 493 ] أن الفلسطينيين لما علموا اتحاد الإسرائيليين تحت ملك علموا أنهم ما أجمعوا أمرهم إلا لقصد أخذ الثأر من أعدائهم وتخليص تابوت العهد من أيديهم ، فدبروا أن يظهروا إرجاع التابوت بسبب آيات شاهدوها ، ظنا منهم أن حدة
بني إسرائيل تقل إذا أرجع إليهم التابوت بالكيفية المذكورة ، آنفا ، ولا يمكن أن يكون هذا الرعب حصل لهم قبل تمليك
شاول ، وابتداء ظهور الأنصار به .
والتابوت اسم عجمي معرب فوزنه فاعول ، وهذا الوزن قليل في الأسماء العربية ، فيدل على أن ما كان على وزنه إنما هو معرب : مثل ناقوس وناموس ، واستظهر
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري أن وزنه فعلول بتحريك العين لقلة الأسماء التي فاؤها ولامها حرفان متحدان : مثل سلس وقلق ، ومن أجل هذا أثبته
الجوهري في مادة توب لا في تبت . والتابوت بمعنى الصندوق المستطيل : وهو صندوق أمر
موسى عليه السلام بصنعه صنعه
بصلئيل الملهم في صناعة الذهب والفضة والنحاس ونجارة الخشب ، فصنعه من خشب السنط وهو شجرة من صنف القرظ وجعل طوله ذراعين ونصفا وعرضه ذراعا ونصفا وارتفاعه ذراعا ونصفا ، وغشاه بذهب من داخل ومن خارج ، وصنع له إكليلا من ذهب ، وسبك له أربع حلق من ذهب على قوائمه الأربع ، وجعل له عصوين من خشب مغشاتين بذهب لتدخل في الحلقات لحمل التابوت ، وجعل غطاءه من ذهب ، وجعل على طريق الغطاء صورة تخيل بها اثنين من الملائكة من ذهب باسطين أجنحتهما فوق الغطاء ، وأمر الله
موسى أن يضع في هذا التابوت لوحي الشهادة اللذين أعطاه الله إياهما وهي الألواح التي ذكرها الله في قوله
ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح .
والسكينة فعيلة بمعنى الاطمئنان والهدوء ، وفي حديث السعي إلى الصلاة
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341306عليكم بالسكينة وذلك أن من بركة التابوت أنه إذا كان بينهم في حرب أو سلم كانت نفوسهم واثقة بحسن المنقلب ، وفيه أيضا كتب
موسى عليه السلام ، وهي مما تسكن لرؤيتها نفوس الأمة وتطمئن لأحكامها ، فالظرفية على الأول مجازية ، وعلى الثاني حقيقية ، وورد في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=168أسيد بن حضير إطلاق السكينة على شيء شبه الغمام ينزل من السماء عند قراءة القرآن ، فلعلها ملائكة يسمون بالسكينة .
والبقية في الأصل : ما يفضل من شيء بعد انقضاء معظمه ، وقد بينت هنا بأنها مما ترك
آل موسى وآل هارون ، وهي بقايا من آثار الألواح ، ومن الثياب التي ألبسها
موسى أخاه
[ ص: 494 ] هارون ، حين جعله الكاهن
لبني إسرائيل ، والحافظ لأمور الدين ، وشعائر العبادة قيل : ومن ذلك عصا
موسى .
ويجوز أن تكون البقية مجازا عن النفيس من الأشياء ; لأن الناس إنما يحافظون ، على النفائس فتبقى كما قال
النابغة :
بقية قدر من قدور توورئت لآل الجلاح كابرا بعد كابر
وقد فسر بهذا المعنى قول
رويشد الطائي :
إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم فما علي بذنب منكم فوت
أي تأتيني الجماعة الذين ترجعون إليهم في مهامكم ، وقريب منه إطلاق التليد على القديم من المال الموروث .
والمراد من
آل موسى وآل هارون أهل بيتهما : من أبناء
هارون ; فإنهم عصبة
موسى ; لأن
موسى لم يترك أولادا ، أو ما تركه آلهما هو آثارهما ، فيئول إلى معنى ما ترك
موسى وهارون وآلهما ، أو أراد مما ترك
موسى وهارون فلفظ آل مقحم كما في قوله
أدخلوا آل فرعون أشد العذاب .
وهارون هو أخو
موسى عليهما السلام وهو
هارون بن عمران من
سبط لاوي ولد قبل أن يأمر فرعون بقتل أطفال بني إسرائيل وهو أكبر من
موسى ، ولما
كلم الله موسى بالرسالة أعلمه بأنه سيشرك معه أخاه
هارون فيكون كالوزير له ، وأوحي إلى
هارون أيضا ، وكان
موسى هو الرسول الأعظم ، وكان معظم وحي الله إلى
هارون على لسان
موسى ، وقد جعل الله
هارون أول كاهن
لبني إسرائيل لما أقام لهم خدمة خيمة العبادة ، وجعل الكهانة في نسله ، فهم يختصون بأحكام لا تشاركهم فيها بقية الأمة منها تحريم الخمر على الكاهن ، ومات
هارون سنة ثمان أو سبع وخمسين وأربعمائة وألف قبل المسيح ، في
جبل هور على تخوم أرض
أدوم في مدة التيه في السنة الثالثة من الخروج من
مصر .
وقوله
تحمله الملائكة حال من التابوت ، والحمل هنا هو الترحيل كما في قوله تعالى
قلت لا أجد ما أحملكم عليه لأن الراحلة تحمل راكبها ; ولذلك تسمى حمولة وفي حديث غزوة
خيبر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341307وكانت الحمر حمولتهم وقال
النابغة :
[ ص: 495 ] يخال به راعي الحمولة طائرا فمعنى حمل الملائكة التابوت هو تسييرهم بإذن الله البقرتين السائرتين بالعجلة التي عليها التابوت إلى محلة
بني إسرائيل ، من غير أن يسبق لهما إلف بالسير إلى تلك الجهة ، هذا هو الملاقي لما في كتب
بني إسرائيل .
وقوله
إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين الإشارة إلى جميع الحالة أي في رجوع التابوت من يد أعدائكم إليكم ، بدون قتال ، وفيما يشتمل عليه التابوت من آثار
موسى عليه السلام ، وفي مجيئه من غير سائق . ولا إلف سابق .