[ ص: 220 ] "
كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب ليكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب " لما كان قوله
جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم ووعدا له بالنصر وتعريضا بوعيد مكذبيه بأنهم صائرون إلى ما صارت إليه الأحزاب الذين هؤلاء منهم كما تقدم آنفا ، جيء بما هو كالبيان لهذا التعريض . والدليل على المصير المقصود على طريقة قياس المساواة ، وقد تقدم آنفا أن هذه الجملة : إما بدل من جملة " جند ما هنالك " إلخ ، وإما استئناف ولذلك فصلت عن التي قبلها .
وحذف مفعول " كذبت " لأنه سيرد ما يبينه في قوله
إن كل إلا كذب الرسل كما سيأتي . وخص فرعون بإسناد التكذيب إليه دون قومه لأن الله أرسل
موسى - عليه السلام - إلى فرعون ليطلق بني إسرائيل ، فكذب
موسى ، فأمر الله
موسى بمجادلة فرعون لإبطال كفره ، فتسلسل الجدال في العقيدة ووجب إشهار أن فرعون وقومه في ضلال لئلا يغتر بنو إسرائيل بشبهات فرعون ، ثم كان فرعون عقب ذلك مضمرا أذى
موسى ومعلنا بتكذيبه .
ووصف فرعون بأنه ب "
ذو الأوتاد " لعظمة ملكه وقوته فلم يكن ذلك ليحول بينه وبين عذاب الله . وأصل الأوتاد أنه : جمع وتد بكسر التاء : عود غليظ له رأس مفلطح يدق في الأرض ليشد به الطنب ، وهو الحبل العظيم الذي تشد به شقة البيت والخيمة فيشد إلى الوتد وترفع الشقة على عماد البيت ، قال
الأفوه الأودي :
والبيت لا يبتنى إلا على عمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
و " الأوتاد " في الآية مستعار لثبات الملك والعز ، كما قال
الأسود بن يعفر :
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة في ظل ملك ثابت الأوتاد
وقيل : الأوتاد : البناءات الشاهقة . وهو عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس والضحاك ، سميت الأبنية أوتادا لرسوخ أسسها في الأرض .
[ ص: 221 ] وهذا القول هو الذي يتأيد بمطابقة التاريخ فإن فرعون المعني في هذه الآية هو (
منفتاح الثاني ) الذي خرج بنو إسرائيل من
مصر في زمنه ، وهو من ملوك العائلة التاسعة عشرة في ترتيب الأسر التي تداولت ملك
مصر ، وكانت هذه العائلة مشتهرة بوفرة المباني التي بناها ملوكها من معابد ومقابر ، وكانت مدة حكمهم مائة وأربعا وسبعين سنة من سنة 1462 قبل المسيح إلى سنة 1288 ق . م .
وقال الأستاذ
محمد عبده في تفسيره للجزء الثلاثين من القرآن في سورة الفجر : " وما أجمل التعبير عما ترك المصريون من الأبنية الباقية بالأوتاد ، فإنها هي الأهرام ومنظرها في عين الرائي منظر الوتد الضخم المغروز في الأرض " اهـ . وأكثر الأهرام بنيت قبل زمن فرعون
موسى منفتاح الثاني ، فكان
منفتاح هذا مالك تلك الأهرام فإنه يفتخر بعظمتها ، وليس يفيد قوله
ذو الأوتاد أكثر من هذا المعنى إذ لا يلزم أن يكون هو الباني تلك الأهرام . وذلك كما يقال : ذو النيل ، وقال تعالى حكاية عنه
وهذه الأنهار تجري من تحتي .
وأما
ثمود وقوم لوط فتقدم الكلام عليهم غير مرة .
وأصحاب ليكة : هم
أهل مدين ، وقد تقدم خبرهم وتحقيق أنهم من قوم
شعيب وأنهم مختلطون مع
مدين في سورة الشعراء .
وتقديم ذكر فرعون على
ثمود وقوم لوط وأصحاب ليكة مع أن قصته حدثت بعد قصصهم لأن حاله مع
موسى أشبه بحال زعماء أهل الشرك
بمكة من أحوال الأمم الأخرى ، فإنه قاوم
موسى بجيش كما قاوم المشركون المسلمين بجيوش .
وجملة
أولئك الأحزاب معترضة بين جملة " كذبت قبلهم " وجملة
إن كل إلا كذب الرسل .
واسم الإشارة مستعمل في التعظيم ، أي تعظيم القوة .
والتعريف في " الأحزاب " استغراق ادعائي وهو المسمى بالدلالة على معنى الكمال مثل : هم القوم وأنت الرجل .
والحصر المستفاد من تعريف المسند والمسند إليه حصر ادعائي ، قصرت صفة
[ ص: 222 ] الأحزاب على المشار إليهم ب " أولئك " بادعاء الأمم ، وأن غيرهم لما يبلغوا مبلغ أن يعدوا من الأحزاب ، فظاهر القصر ولام الكمال لتأكيد معنى الكمال كقول
الأشهب بن رميلة :
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
والمعنى : أولئك المذكورون هم الأمم لا تضاهيهم أمم في القوة والشدة . وهذا تعريض بتخويف مشركي العرب من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك على حد قوله تعالى
أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب في سورة غافر .
وجملة
إن كل إلا كذب الرسل مؤكدة لجملة
كذبت قبلهم قوم نوح إلى قوله " وأصحاب ليكة ، أخبر أولا عنهم بأنهم كذبوا وأكد ذلك بالإخبار عنهم بأنهم ليسوا إلا مكذبين على وجه الحصر ، كأنهم لا صفة لهم إلا تكذيب الرسل لتوغلهم فيها وكونها هجيراهم .
و ( إن ) نافية ، وتنوين ( كل ) تنوين عوض ، والتقدير : إن كلهم .
وجيء بالمسند فعلا في قوله "
كذب الرسل " ليفيد تقديم المسند إليه عليه تخصيص المسند إليه بالمسند الفعلي فحصل بهذا النظم أكيد الحصر .
وتعدية " كذب " إلى الرسل بصيغة الجمع مع أن كل أمة إنما كذبت رسولها ، مقصود منه تفظيع التكذيب لأن الأمة إنما كذبت رسولها مستندة لحجة سفسطائية هي استحالة أن يكون واحد من البشر رسولا من الله ، فهذه السفسطة تقتضي أنهم يكذبون جميع الرسل .
وقد حصل تسجيل التكذيب عليهم بفنون من تقوية ذلك التسجيل وهي إبهام مفعول " كذبت " في قوله " كذبت قبلهم " ثم تفصيله بقوله " إلا كذب الرسل " وما في قوله
إن كل إلا كذب الرسل من الحصر ، وما في تأكيده بالمسند الفعلي في قوله " إلا كذب " ، وما في جعل المكذب به جميع الرسل ،
[ ص: 223 ] فأنتج ذلك التسجيل استحقاقهم عذاب الله في قوله "
فحق عقاب " ، أي عقابي ، فحذفت ياء المتكلم للرعاية على الفاصلة وأبقيت الكسرة في حالة الوصل .
وحق : تحقق ، أي كان حقا ، لأنه اقتضاه عظيم جرمهم .
والعقاب : هو ما حل بكل أمة منهم من العذاب وهو الغرق والتمزيق بالريح ، والغرق أيضا ، والصيحة ، والخسف ، وعذاب يوم الظلة .
وفي هذا تعريض بالتهديد لمشركي
قريش بعذاب مثل عذاب أولئك لاتحادهم في موجبه .