ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين .
جرى هذا الكلام مجرى الحجة على مضمون الجملة الماضية أو المثال لها ، فإنه لما ذكر أن الله يخرج الذين آمنوا من الظلمات إلى النور وأن الطاغوت يخرجون الذين كفروا من النور إلى الظلمات ، ساق ثلاثة شواهد على ذلك هذا أولها وأجمعها ؛ لأنه اشتمل على ضلال الكافر وهدى المؤمن ، فكان هذا في قوة المثال .
والمقصود من هذا تمثيل حال المشركين في مجادلتهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - في البعث بحال الذي حاج
إبراهيم في ربه ، ويدل لذلك ما يرد من التخيير في التشبيه في قوله
أو كالذي مر على قرية الآية .
وقد مضى الكلام على تركيب ( ألم تر ) .
والاستفهام في ( ألم تر ) مجازي متضمن معنى التعجيب ، وقد تقدم تفصيل معناه وأصله عند قوله تعالى :
ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهذا استدلال مسوق لإثبات الوحدانية لله تعالى وإبطال إلاهية غيره لانفراده بالإحياء والإماتة ، وانفراده بخلق العوالم المشهودة للناس ، ومعنى ( حاج ) خاصم ، وهو
[ ص: 32 ] فعل جاء على زنة المفاعلة ، ولا يعرف لـ ( حاج ) في الاستعمال فعل مجرد دال على وقوع الخصام ولا تعرف المادة التي اشتق منها ، ومن العجيب أن الحجة في كلام العرب البرهان المصدق للدعوى مع أن ( حاج ) لا يستعمل غالبا إلا في معنى المخاصمة ، قال تعالى :
وإذ يتحاجون في النار مع قوله :
إن ذلك لحق تخاصم أهل النار وأن الأغلب أنه يفيد الخصام بباطل ، قال تعالى :
وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان وقال :
فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله والآيات في ذلك كثيرة ، فمعنى :
الذي حاج إبراهيم أنه خاصمه خصاما باطلا في شأن صفات الله رب
إبراهيم .
والذي حاج
إبراهيم كافر لا محالة لقوله :
فبهت الذي كفر وقد قيل : إنه
نمرود بن فالخ بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن كوش بن حام بن نوح ، فيكون أخا (
رعو ) جد
إبراهيم ، والذي يعتمد أنه ملك جبار ، كان ملكا في
بابل ، وأنه الذي بنى مدينة
بابل ، وبنى الصرح الذي في
بابل ، واسمه
نمرود ، بالدال المهملة في آخره ، ويقال بالذال المعجمة ، ولم تتعرض كتب
اليهود لهذه القصة وهي في المرويات .
والضمير المضاف إليه ( رب ) عائد إلى
إبراهيم ، والإضافة لتشريف المضاف إليه ، ويجوز عوده إلى ( الذي ) والإضافة لإظهار غلطه كقول
ابن زيابة :
نبئت عمرا غارزا رأسه في سنة يوعد أخواله
أي : ما كان من شأن المروءة أن يظهر شرا لأهل رحمه .
وقوله :
أن آتاه الله الملك تعليل حذفت منه لام التعليل ، وهو تعليل لما يتضمنه ( حاج ) من الإقدام على هذا الغلط العظيم الذي سهله عنده ازدهاؤه وإعجابه بنفسه ، فهو تعليل محض وليس علة غائية مقصودة للمحاج من حجاجه ، وجوز صاحب الكشاف أن يكون تعليلا غائيا ، أي حاج لأجل أن الله آتاه الملك ، فاللام استعارة تبعية لمعنى يؤدى بحرف غير اللام ، والداعي لهاته الاستعارة التهكم ، أي أنه وضع الكفر موضع الشكر كما في أحد الوجهين في قوله تعالى :
وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون أي : جزاء رزقكم ، وإيتاء الملك مجاز في التفضل عليه بتقدير أن جعله ملكا وخوله ذلك ، ويجيء تفصيل هذا الفعل عند قوله تعالى :
وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم في سورة الأنعام ، قيل : كان
نمرود أول ملك في الأرض وأول من وضع التاج على رأسه .
[ ص: 33 ] و ( إذ قال ) ظرف لـ ( حاج ) وقد دل هذا على أن
إبراهيم هو الذي بدأ بالدعوة إلى التوحيد واحتج بحجة واضحة يدركها كل عاقل ، وهي أن الرب الحق هو الذي يحيي ويميت فإن كل أحد يعلم بالضرورة أنه لا يستطيع إحياء ميت ، فلذلك ابتدأ إبراهيم الحجة بدلالة عجز الناس عن إحياء الأموات ، وأراد بأن الله يحيي أنه يخلق الأجسام الحية من الإنسان والحيوان وهذا معلوم بالضرورة ، وفي تقديم الاستدلال بخلق الحياة إدماج لإثبات البعث لأن الذي حاج
إبراهيم كان من عبدة الأصنام ، وهم ينكرون البعث ، وذلك موضع العبرة في سياق الآية في القرآن على مسامع أهل الشرك ، ثم أعقبه بدلالة الإماتة ، فإنه لا يستطيع تنهية حياة الحي ، ففي الإحياء والإماتة دلالة على أنهما من فعل فاعل غير البشر ، فالله هو الذي يحيي ويميت ، فالله هو الباقي دون غيره الذين لا حياة لهم أصلا كالأصنام إذ لا يعطون الحياة غيرهم وهم فاقدوها ، ودون من لا يدفع الموت على نفسه مثل هذا الذي حاج
إبراهيم .
وجملة
قال أنا أحيي بيان لـ ( حاج ) والتقدير : حاج
إبراهيم قال أنا أحيي وأميت حين قال له
إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت وقد جاء بمغالطة عن جهل أو غرور في الإحياء والإماتة إذ زعم أنه يعمد إلى من حكم عليه بالموت فيعفو عنه ، وإلى بريء فيقتله ، كذا نقلوه ، ويجوز أن يكون مراده أن الإحياء والإماتة من فعله هو لأن أمرهما خفي لا يقوم عليه برهان محسوس .
وقرأ الجمهور ألف ضمير ( أنا ) بقصر الألف بحيث يكون كفتحة غير مشبعة وذلك استعمال خاص بألف ( أنا ) في العربية ، وقرأه
نافع وأبو جعفر مثلهم إلا إذا وقع بعد الألف همزة قطع مضمومة أو مفتوحة كما هنا ، وكما في قوله تعالى :
وأنا أول المسلمين فيقرأه بألف ممدودة ، وفي همزة القطع المكسورة روايتان
nindex.php?page=showalam&ids=16810لقالون عن
نافع نحو قوله تعالى :
إن أنا إلا نذير وهذه لغة فصيحة .
وقوله : قال إبراهيم مجاوبة ، فقطعت عن العطف جريا على طريقة حكاية المحاورات وقد عدل
إبراهيم عن الاعتراض بأن هذا ليس من الإحياء المحتج به ولا من الإماتة المحتج بها ، فأعرض عنه لما علم من مكابرة خصمه ، وانتقل إلى ما لا يستطيع الخصم انتحاله ، ولذلك بهت ، أي : عجز ولم يجد معارضة .
[ ص: 34 ] و ( بهت ) فعل مبني للمجهول . يقال : بهته فبهت . بمعنى أعجزه عن الجواب فعجز أو فاجأه بما لم يعرف دفعه .
قال تعالى :
بل تأتيهم بغتة فتبهتهم وقال
عروة العذري :
فما هو إلا أن أراها فجاءة فأبهت حتى ما أكاد أجيب
ومنه البهتان وهو الكذب الفظيع الذي يبهت سامعه .
وقوله :
والله لا يهدي القوم الظالمين تذييل هو حوصلة الحجة على قوله :
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور وإنما انتفى هدى الله القوم الظالمين ؛ لأن الظلم حائل بين صاحبه وبين التنازل إلى التأمل من الحجج وإعمال النظر فيما فيه النفع إذ الذهن في شاغل عن ذلك بزهوه وغروره .
والآية دليل على جواز
المجادلة والمناظرة في إثبات العقائد والقرآن مملوء بذلك ، وأما ما نهي عنه من الجدل فهو جدال المكابرة والتعصب وترويج الباطل والخطأ .