أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة .
الجملة اعتراض بين الثناء على القرآن فيما مضى وقوله الآتي ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل .
وجعلها المفسرون تفريعا على جملة ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد بدلالة مجموع الجملتين على فريقين : فريق مهتد ، وفريق ضال ، ففرع على ذلك هذا الاستفهام المستعمل في معنى مجازي .
وجعل المفسرون في الكلام حذفا ، وتقدير المحذوف : كمن أمن العذاب ؛ أو كمن هو في النعيم . وجعلوا الاستفهام تقريريا أو إنكاريا ، والمقصود : عدم التسوية بين من هو في العذاب ، وهو الضال ، ومن هو في النعيم ، وهو الذي هداه الله ؛ وحذف حال الفريق الآخر لظهوره من المقابلة التي اقتضاها الاستفهام بناء على أن هذا التركيب نظير قوله أفمن حق عليه كلمة العذاب وقوله
[ ص: 393 ] أفمن شرح الله صدره للإسلام والقول فيه مثل القول في سابقه من الاستفهام وحذف الخبر ، وتقديره : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب ، لأن الله أضله كمن أمن من العذاب لأن الله هداه ، وهو كقوله تعالى
أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله والمعنى : أن الذين اهتدوا لا ينالهم العذاب .
ويجوز عندي أن يكون الكلام تفريعا على جملة ومن يضلل الله فما له من هاد تفريعا لتعيين ما صدق ( من ) في قوله
ومن يضلل الله فما له من هاد ويكون " من يتقي " خبرا لمبتدأ محذوف ، تقديره : أفهو من يتقي بوجهه سوء العذاب ، والاستفهام للتقرير .
والاتقاء : تكلف الوقاية وهي الصون والدفع ، وفعلها يتعدى إلى مفعولين ، يقال : وقى نفسه ضرب السيف ، ويتعدى بالباء إلى سبب الوقاية ، يقال : وقى بترسه ، وقال
النابغة : .
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
وإذا كان وجه الإنسان ليس من شأنه أن يوقى به شيء من الجسد ، إذ الوجه أعز ما في الجسد وهو يوقى ولا يتقى به ، فإن من جبلة الإنسان إذا توقع ما يصيب جسده ستر وجهه خوفا عليه ، فتعين أن يكون الاتقاء بالوجه مستعملا كناية عن عدم الوقاية على طريقة التهكم أو التمليح ، فكأنه قيل : من يطلب وقاية وجهه فلا يجد ما يقيه به إلا وجهه ، وهذا من إثبات الشيء بما يشبه نفيه ، وقريب منه قوله تعالى
وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل .
و " سوء العذاب " منصوب على المفعولية لفعل " يتقي " ، وأصله مفعول ثان إذ أصله : وقى نفسه سوء العذاب ، فلما صيغ منه الافتعال صار الفعل متعديا إلى مفعول واحد هو الذي كان مفعولا ثانيا .