[ ص: 41 ] مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
عود إلى
التحريض على الإنفاق في سبيل الله ، فهذا المثل راجع إلى قوله
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم وهو استئناف بياني لأن قوله
من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه الآية . يثير في نفوس السامعين الاستشراف لما يلقاه المنفق في سبيل الله يومئذ بعد أن أعقب بدلائل ومواعظ وعبر ، وقد تهيأت نفوس السامعين إلى التمحض لهذا فأطيل الكلام فيه إطالة تناسب أهميته .
وقوله :
مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله تشبيه حال جزائهم وبركتهم ، والصلة مؤذنة بأن المراد خصوص حال إنفاقهم بتقدير " مثل نفقة الذين " وقد شبه حال إعطاء النفقة ومصادفتها موقعها وما أعطي من الثواب لهم بحال حبة أنبتت سبع سنابل إلخ ، أي زرعت في أرض نقية وتراب طيب وأصابها الغيث فأنبتت سبع سنابل ، وحذف ذلك كله إيجازا ؛ لظهور أن الحبة لا تنبت ذلك إلا كذلك ، فهو من تشبيه المعقول بالمحسوس ، والمشبه به هيأة معلومة ، وجعل أصل التمثيل في التضعيف حبا لأن تضعيفها من ذاتها لا بشيء يزاد عليها ، وقد شاع تشبيه المعروف بالزرع وتشبيه الساعي بالزارع ، وفي المثل : ( رب ساع لقاعد وزارع غير حاصد ) ولما كانت المضاعفة تنسب إلى أصل وحدة ، فأصل الوحدة هنا هي ما يثيب الله به على الحسنات الصغيرة ، أي : ما يقع ثوابا على أقل الحسنات كمن هم بحسنة فلم يعملها ، فإنه في حسنة الإنفاق في سبيل الله يكون سبعمائة ضعف .
قال
الواحدي في أسباب النزول وغيره : إن هذه الآية نزلت في
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان بن عفان nindex.php?page=showalam&ids=38وعبد الرحمن بن عوف ، ذلك
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341330أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أراد [ ص: 42 ] الخروج إلى غزوة تبوك حث الناس على الإنفاق في سبيل الله ، وكان الجيش يومئذ بحاجة إلى الجهاز ، وهو جيش العسرة ، فجاءه nindex.php?page=showalam&ids=38عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف وقال nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان بن عفان : علي جهاز من لا جهاز له . فجهز الجيش بألف بعير بأقتابها وأحلاسها . وقيل : جاء بألف دينار ذهبا فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومعنى قوله :
والله يضاعف لمن يشاء أن المضاعفة درجات كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى ؛ لأنه تترتب على أحوال المتصدق وأحوال المتصدق عليه وأوقات ذلك وأماكنه ، وللإخلاص وقصد الامتثال ومحبة الخير للناس والإيثار على النفس وغير ذلك مما يحف بالصدقة والإنفاق تأثير في تضعيف الأجر " والله واسع عليم " .
وأعاد قوله :
الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله إظهارا للاهتمام بهذه الصلة ، وقوله :
ثم لا يتبعون جاء في عطفه بـ ( ثم ) مع أن الظاهر أن يعطف بالواو ، قال في الكشاف : لإظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى ، وأن تركهما خير من نفس الإنفاق . يعني أن ( ثم ) للترتيب الرئيسي لا للمهلة الزمنية ترفيعا لرتبة ترك المن والأذى على رتبة الصدقة ، لأن العطاء قد يصدر عن كرم النفس وحب المحمدة ؛ فللنفوس حظ فيه مع حظ المعطى ، بخلاف ترك المن والأذى فلا حظ فيه لنفس المعطي ، إذ شبه حصول الشيء المهم في عزة حصوله بحصول الشيء المتأخر زمنه ، وكأن الذي دعا
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري إلى هذا أنه رأى معنى المهلة هنا غير مراد ؛ لأن المراد حصول الإنفاق وترك المن معا .
والمن أصله الإنعام والفضل ، يقال : من عليه منا . ثم أطلق على عد الإنعام على المنعم عليه ، ومنه قوله تعالى :
ولا تمنن تستكثر وهو إذا ذكر بعد الصدقة والعطاء تعين للمعنى الثاني .
وإنما يكون
المن في الإنفاق في سبيل الله بالتطاول على المسلمين
والرياء بالإنفاق ، وبالتطاول على المجاهدين الذين يجهزهم أو يحملهم ، وليس من المن التمدح بمواقف المجاهد في الجهاد أو بمواقف قومه ، فقد قال
الحريش بن هلال القريعي يذكر خيله في غزوة فتح
مكة ويوم
حنين :
[ ص: 43 ] شهدن مع النبيء مسومات حنينا وهي دامية الحوامي ووقعة خالد شهدت وحكت
سنابكها على البلد الحرام
وقال
عباس بن مرداس يتمدح بمواقع قومه في غزوة
حنين :
حتى إذا قال النبيء محمد أبني سليم قد وفيتم فارجعوا
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
والأذى هو أن يؤذي المنافق من أنفق عليه بإساءة في القول أو في الفعل . قال
النابغة :
علي لعمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب
فالمقصد الشرعي أن يكون إنفاق المنفق في سبيل الله مرادا به نصر الدين ولا حظ للنفس فيه ، فذلك هو أعلى درجات الإنفاق وهو الموعود عليه بهذا الأجر الجزيل ، ودون ذلك مراتب كثيرة تتفاوت أحوالها .