أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون .
( أم ) منقطعة وهي للإضراب الانتقالي انتقالا من تشنيع إشراكهم إلى إبطال معاذيرهم في شركهم ، ذلك أنهم لما دمغتهم حجج القرآن باستحالة أن يكون لله
[ ص: 27 ] شركاء تمحلوا تأويلا لشركهم فقالوا
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى كما حكي عنهم في أول هذه السورة ، فلما استوفيت الحجج على إبطال الشرك أقبل هنا على إبطال تأويلهم منه ومعذرتهم .
والاستفهام الذي تشعر به أم في جميع مواقعها هو هنا للإنكار بمعنى أن تأويلهم وعذرهم منكر كما كان المعتذر عنه منكرا فلم يقضوا بهذه المعذرة وطرا .
وقد تقدم في أول السورة بيان مرادهم بكونهم شفعاء .
وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم مقالة تقطع بهتانهم وهي (
أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ) .
فالواو في ( أولو كانوا ) عاطفة كلام المجيب على كلامهم وهو من قبيل ما سمي بعطف التلقين في قوله تعالى
قال ومن ذريتي في سورة البقرة ، ولك أن تجعل الواو للحال كما هو المختار في نظيره . وتقدم في قوله
ولو افتدى به في سورة آل عمران . وصاحب الحال مقدر دل عليه ما قبله من قوله
اتخذوا من دون الله شفعاء ، والتقدير : أيشفعون لو كانوا لا يملكون شيئا .
والظاهر أن حكم تصدير الاستفهام قبل واو الحال كحكم تصديره قبل واو العطف .
وأفاد تنكير شيئا في سياق النفي عموم كل ما يملك فيدخل في عمومه جميع أنواع الشفاعة . ولما كانت الشفاعة أمرا معنويا كان معنى ملكها تحصيل إجابتها ، والكلام تهكم إذ كيف يشفع من لا يعقل فإنه لعدم عقله لا يتصور خطور معنى الشفاعة عنده فضلا عن أن تتوجه إرادته إلى الاستشفاع فاتخاذهم شفعاء من الحماقة .
ولما نفى أن يكون لأصنامهم شيء من الشفاعة في عموم نفي ملك شيء من الموجودات عن الأصنام ، قوبل بقوله لله الشفاعة أي الشفاعة كلها لله . وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول ذلك لهم ليعلموا أن لا يملك الشفاعة إلا الله ، أي هو مالك إجابة شفاعة الشفعاء الحق .
[ ص: 28 ] وتقديم الخبر المجرور وهو لله على المبتدأ لإفادة الحصر . واللام للملك ، أي
قصر ملك الشفاعة على الله تعالى لا يملك أحد الشفاعة عنده .
و ( جميعا ) حال من الشفاعة مفيدة للاستغراق ، أي لا يشذ جزئي من جزئيات حقيقة الشفاعة عن كونه ملكا لله وقد تأكد بلازم هذه لحال ما دل عليه الحصر من انتفاء أن يكون شيء من الشفاعة لغير الله .
وجملة
له ملك السماوات والأرض لتعميم انفراد الله بالتصرف في السماوات والأرض الشامل للتصرف في مؤاخذة المخلوقات وتسيير أمورهم فموقعها موقع التذييل المفيد لتقرير الجملة التي قبله وزيادة . والمراد الملك بالتصرف بالخلق وتصريف أحوال العالمين ومن فيهما ، فإذا كان ذلك الملك له لا يستطيع أحد صرفه عن أمر أراد وقوعه إلى ضد ذلك الأمر في مدة وجود السماوات والأرض ، وهذا إبطال لأن تكون لآلهتهم شفاعة لهم في أحوالهم في الدنيا .
وعطف عليه (
ثم إليه ترجعون ) للإشارة إلى إثبات البعث وإلى أنه لا يشفع أحد عند الله بعد الحشر إلا من أذنه الله بذلك .
و ( ثم ) للترتيب الرتبي كشأنها في عطف الجمل ، ذلك لأن مضمون (
إليه ترجعون ) أن لله ملك الآخرة كما كان له ملك الدنيا وملك الآخرة أعظم لسعة مملوكاته وبقائها .
وتقديم ( إليه ) على ( ترجعون ) للاهتمام والتقوي وللرعاية على الفاصلة .