قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون .
لما كان أكثر ما تقدم من السورة مشعرا بالاختلاف بين المشركين والمؤمنين ، وبأن المشركين مصممون على باطلهم على ما غمرهم من حجج الحق دون إغناء الآيات والتدبر عنهم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عقب ذلك بأن يقول هذا
[ ص: 31 ] القول تنفيسا عنه من كدر الأسى على قومه ، وإعذارا لهم بالنذارة ، وإشعارا لهم بأن الحق في جانبهم مضاع وأن الأجدر بالرسول صلى الله عليه وسلم متاركتهم وأن يفوض الحكم في خلافهم إلى الله .
وفي هذا التفويض إشارة إلى أن الذي فوض أمره إلى الله هو الواثق بحقية دينه المطمئن بأن التحكيم يظهر حقه وباطل خصمه .
وابتدئ خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ربه بالنداء لأن المقام مقام توجيه وتحاكم .
وإجراء الوصفين على اسم الجلالة لما فيهما من المناسبة بخضوع الخلق كلهم لحكمه وشمول علمه لدخائلهم من محق ومبطل .
والفاطر : الخالق ، وفاطر السماوات والأرض : فاطر لما تحتوي عليه .
ووصف فاطر السماوات والأرض مشعر بصفة القدرة ، وتقديمه قبل وصف العلم لأن شعور الناس بقدرته سابق على شعورهم بعلمه ، ولأن القدرة أشد مناسبة لطلب الحكم لأن الحكم إلزام وقهر فهو من آثار القدرة مباشرة .
والغيب : ما خفي وغاب عن علم الناس ، والشهادة : ما يعلمه الناس مما يدخل تحت الإحساس الذي هو أصل العلوم .
والعدول عن الإضمار إلى الاسم الظاهر في قوله (
بين عبادك ) دون أن يقول : بيننا ، لما في ( عبادك ) من العموم لأنه جمع مضاف فيشمل الحكم بينهم في قضيتهم هذه والحكم بين كل مختلفين لأن التعميم أنسب بالدعاء والمباهلة .
وجملة (
أنت تحكم بين عبادك ) خبر مستعمل في الدعاء . والمعنى : احكم بيننا . وفي تلقين هذا الدعاء للنبيء صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أنه الفاعل الحق .
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله (
أنت تحكم ) لإفادة الاختصاص ، أي أنت لا غيرك .
وإذ لم يكن في الفريقين من يعتقد أن الله يحكم بين الناس في مثل هذا الاختلاف فيكون الرد عليه بمفاد القصر ، تعين أن القصر مستعمل كناية تلويحية
[ ص: 32 ] عن شدة شكيمتهم في العناد وعدم الإنصاف والانصياع إلى قواطع الحجج ، بحيث إن من يتطلب حاكما فيهم لا يجد حاكما فيهم إلا الله تعالى . وهذا أيضا يومئ إلى العذر للرسول صلى الله عليه وسلم في قيامه بأقصى ما كلف به لأن هذا القول إنما يصدر عمن بذل وسعه فيما وجب عليه ، فلما لقنه ربه أن يقوله كان ذلك في معنى : أنك أبلغت وأديت الرسالة فلم يبق إلا ما يدخل تحت قدرة الله تعالى التي لا يعجزها الألداء أمثال قومك ، وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وفيه وعيد للمعاندين .
والحكم يصدق بحكم الآخرة وهو المحقق الذي لا يخلف ، ويشمل حكم الدنيا بنصر المحق على المبطل إذا شاء الله أن يعجل بعض حكمه بأن يعجل لهم العذاب في الدنيا .
والإتيان بفعل الكون صلة ل ( ما ) الموصولة ليدل على تحقق الاختلاف ، وكون خبر ( كان ) مضارعا تعريض بأنه اختلاف متجدد إذ لا طماعية في ارعواء المشركين عن باطلهم .
وتقديم ( فيه ) على ( يختلفون ) للرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بالأمر المختلف فيه .