ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون .
عطف على جملة
قل اللهم فاطر السماوات والأرض إلخ لأنها تشير إلى أن الحق في جانب النبيء صلى الله عليه وسلم وهو الذي دعا ربه للمحاكمة ، وأن الحكم سيكون على المشركين ، فأعقب ذلك بتهويل ما سيكون به الحكم بأنه لو وجد المشركون فدية منه بالغة ما بلغت لافتدوا بها .
[ ص: 33 ] و
ما في الأرض يشمل كل عزيز من أهليهم وأموالهم بل وأنفسهم فهو أهون من سوء العذاب يوم القيامة .
والمعنى : لو أن ذلك ملك لهم يوم القيامة لافتدوا به يومئذ . ووجه التهويل في ذلك هو ما يستلزمه ملك هذه الأشياء من الشح بها في متعارف النفوس ، فالكلام تمثيل لحالهم في شدة الدرك والشقاء بحال من لو كان له ما ذكر لبذله فدية من ذلك العذاب ، وتقدم نظير هذا في سورة العقود . وتضمن حرف الشرط أن كون ما في الأرض لهم منتف ، فأفاد أن لا فداء لهم من سوء العذاب وهو تأييس لهم .
و ( من ) في قوله
من سوء العذاب بمعنى لام التعليل ، أي لافتدوا به لأجل العذاب السيئ الذي شاهدوه . ويجوز أن تكون للبدل ، أي بدلا عن
سوء العذاب .
وعطف على هذا التأييس تهويل آخر في عظم ما ينالهم من العذاب وهو ما في الموصول من قوله
ما لم يكونوا يحتسبون من الإيهام الذي تذهب فيه نفس السامع إلى كل تصوير من الشدة .
ويجوز جعل الواو للحال ، أي لافتدوا به في حال ظهور ما لم يكونوا يحتسبون .
و
من الله متعلق ب ( بدا ) ، و ( من ) ابتدائية ، أي ظهر لهم مما أعد الله لهم الذي لم يكونوا يظنونه .
والاحتساب : مبالغة في الحساب بمعنى الظن مثل : اقترب بمعنى قرب . والمعنى : ما لم يكونوا يظنونه ، وذلك كناية عن كونه متجاوزا أقصى ما يتخيله المتخيل حين يسمع أوصافه ، فلا التفات في هذه الكناية إلى كونهم كانوا مكذبين بالبعث فلم يكن يخطر ببالهم ، ونظير هذا الوعد بالخبر قوله تعالى
فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين .
و ( سيئات ) جمع سيئة ، وهو وصف أضيف إلى موصوفه وهو الموصول ( ما كسبوا ) أي مكسوباتهم السيئات . وتأنيثها باعتبار شهرة إطلاق السيئة على
[ ص: 34 ] الفعلة وإن كان فيما كسبوه ما هو من فاسد الاعتقاد كاعتقاد الشركاء لله وإضمار البغض للرسول والصالحين ، والأحقاد والتحاسد ، فجرى تأنيث الوصف على تغليب السيئات العملية مثل الغصب والقتل والفواحش تغليبا لفظيا لكثرة الاستعمال .
وأوثر فعل ( كسبوا ) على فعل : عملوا ، لقطع تبرمهم من العذاب بتسجيل أنهم اكتسبوا أسبابه بأنفسهم ، كما تقدم آنفا في قوله
وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون دون : تعلمون .
والحوق : الإحاطة ، أي أحاط بهم فلم ينفلتوا منه ، وتقدم الخلاف في اشتقاقه في قوله تعالى
ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم في سورة الأنعام .
وما
كانوا به يستهزئون هو عذاب الآخرة ، أي يستهزئون بذكره تنزيلا للعقاب منزلة مستهزأ به فيكون الضمير المجرور استعارة مكنية .
ولك أن تجعل الباء للسببية وتجعل متعلق ( يستهزئون ) محذوفا ، أي يستهزئون بالنبيء صلى الله عليه وسلم بسبب ذكره العذاب .
وتقديم ( به ) على ( يستهزئون ) للاهتمام به وللرعاية على الفاصلة .