ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد .
أعقب تخويفهم بعقاب الدنيا الذي حل مثله بقوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم بأن خوفهم وأنذرهم عذاب الآخرة عاطفا جملته على جملة عذاب الدنيا .
وأقحم بين حرف العطف والمعطوف نداء قومه للغرض الذي تقدم آنفا .
و (
يوم التناد ) يوم الحساب والحشر ، سمي يوم التناد لأن الخلق يتنادون يومئذ : فمن مستشفع ، ومن متضرع ، ومن مسلم ومهنئ ، ومن موبخ ، ومن معتذر ، ومن آمر ، ومن معلن بالطاعة ، قال تعالى يوم يناديهم ،
أولئك ينادون من مكان بعيد ،
ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار ،
ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة ،
يوم ندعو كل أناس بإمامهم ،
دعوا هنالك ثبورا ،
يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر ونحو ذلك .
ومن بديع البلاغة ذكر هذا الوصف لليوم في هذا المقام ليذكرهم أنه في موقفه بينهم يناديهم ب ( يا قوم ) ناصحا ومريدا خلاصهم من كل نداء مفزع يوم القيامة ، وتأهيلهم لكل نداء سار فيه .
وقرأ الجمهور ( يوم التناد ) بدون ياء في الوصل والوقف وهو غير منون ولكن عومل معاملة المنون لقصد الرعاية على الفواصل ، كقول التاسعة من نساء
[ ص: 137 ] nindex.php?page=hadith&LINKID=2002290حديث أم زرع زوجي رفيع العماد ، طويل النجاد ، كثير الرماد ، قريب البيت من الناد فحذفت الياء من كلمة الناد وهي معرفة .
وقرأ
ابن كثير " يوم التنادي " بإثبات الياء على الأصل اعتبارا بأن الفاصلة هي قوله ( فما له من هاد ) .
و
يوم تولون بدل من
يوم التناد ، والتولي : الرجوع ، والإدبار : أن يرجع من الطريق التي وراءه ، أي من حيث أتى هربا من الجهة التي ورد إليها لأنه وجد فيها ما يكره ، أي يوم تفرون من هول ما تجدونه . و ( مدبرين ) حال مؤكدة لعاملها وهو ( تولون ) .
وجملة
ما لكم من الله من عاصم في موضع الحال . والمعنى : حالة لا ينفعكم التولي .
والعاصم : المانع والحافظ . و ( من الله ) متعلق ب ( عاصم ) ، و ( من ) المتعلقة به للابتداء ، تقول : عصمه من الظالم ، أي جعله في منعة مبتدأة من الظالم . وضمن فعل ( عصم ) معنى : أنقذ وانتزع ، ومعنى ( من الله ) من عذابه وعقابه لأن المنع إنما تتعلق به المعاني لا الذوات .
و ( من ) الداخلة على ( عاصم ) مزيدة لتأكيد النفي .
وأغنى الكلام على تعدية فعل
أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب عن إعادته هنا .
وجملة
ومن يضلل الله فما له من هاد عطف على جملة
إني أخاف عليكم يوم التناد لتضمنها معنى : إني أرشدكم إلى الحذر من يوم التنادي .
وفي الكلام إيجاز بحذف جمل تدل عليها الجملة المعطوفة .
والتقدير : هذا إرشاد لكم فإن هداكم الله عملتم به وإن أعرضتم عنه فذلك لأن الله أضلكم ومن يضلل الله فما له من هاد ، وفي هذه الجملة معنى التذييل .
ومعنى إسناد الإضلال والإغواء ونحوهما إلى الله أن يكون قد خلق نفس
[ ص: 138 ] الشخص وعقله خلقا غير قابل لمعاني الحق والصواب ، ولا ينفعل لدلائل الاعتقاد الصحيح .
وأراد من هذه الصلة العموم الشامل لكل من حرمه الله التوفيق ، وفيه تعريض بتوقعه أن يكون
فرعون وقومه من جملة هذا العموم ، وآثر لهم هذا دون أن يقول
ومن يهد الله فما له من مضل لأنه أحس منهم الإعراض ولم يتوسم فيهم مخائل الانتفاع بنصحه وموعظته .