[ ص: 172 ] إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه .
جرى الكلام من أول السورة إلى هنا في ميدان الرد على مجادلة المشركين في آيات الله ودحض شبههم وتوعدهم على كفرهم وضرب الأمثال لهم بأمثالهم من أهل العناد ابتداء من قوله ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا وقوله أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم ، كما ذكرت أمثال أضدادهم من أهل الإيمان من حضر منهم ومن غبر من قوله
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون ثم قوله وقال رجل مؤمن من آل فرعون ، وختم ذلك بوعد النبيء - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بالنصر كما نصر النبيئين من قبله والذين آمنوا بهم ، وأمر بالصبر على عناد قومه والتوجه إلى عبادة ربه ، فكان ذكر الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان عقب ذلك من باب المثل المشهور الشيء بالشيء يذكر .
وبهذه المناسبة انتقل هنا إلى كشف ما تكنه صدور المجادلين من أسباب جدالهم بغير حق ، ليعلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - دخيلتهم فلا يحسب أنهم يكذبونه تنقصا له ولا تجويزا للكذب عليه ، ولكن الذي يدفعهم إلى التكذيب هو
التكبر عن أن يكونوا تبعا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ووراء الذين سبقوهم بالإيمان ممن كانوا لا يعبئون بهم .
وهذا نحو قوله تعالى
قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون .
فقوله إن الذين يجادلون في آيات الله الآية ، استئناف ابتدائي وهو كالتكرير لجملة الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله تكرير تعداد للتوبيخ عند تنهية غرض الاستدلال كما يوقف الموبخ المرة بعد المرة .
و الذين يجادلون هم مشركو
أهل مكة وهم المخبر عنهم في قوله أول السورة
ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد .
ومعنى المجادلة في آيات الله تقدم هناك .
[ ص: 173 ] ويتعلق قوله بغير سلطان ب يجادلون ، والباء للمصاحبة ، أي مصاحب لهم غير سلطان ، أي غير حجة ، أي أنهم يجادلون مجادلة عناد وغصب .
وفائدة هذا القيد تشنيع مجادلتهم وإلا فإن المجادلة في آيات الله لا تكون إلا بغير سلطان لأن آيات الله لا تكون مخالفة للواقع فهذا القيد نظير القيد في قوله ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ، وكذلك وصف سلطان بجملة أتاهم لزيادة تفظيع مجادلتهم بأنها عرية عن حجة لديهم فهم يجادلون بما ليس لهم به علم ، وتقدم نظير أول هذه الآية في أثناء قصة
موسى وفرعون في هذه السورة .
وإن في قوله
إن في صدورهم إلا كبر نافية والجار والمجرور خبر مقدم ، والاستثناء مفرغ ، وكبر مبتدأ مؤخر ، والجملة كلها خبر عن الذين يجادلون ، وأطلق الصدور على القلوب مجازا بعلاقة الحلول ، والمراد ضمائر أنفسهم ، والعرب يطلقون القلب على العقل لأن القلب هو الذي يحس الإنسان بحركته عند الانفعالات النفسية من الفرح وضده والاهتمام بالشيء .
والكبر من الانفعالات النفسية ، وهو : إدراك الإنسان خواطر تشعره بأنه أعظم من غيره فلا يرضى بمساواته بله متابعته ، وتقدم في تفسير قوله تعالى
إلا إبليس أبى واستكبر في سورة البقرة .
والمعنى : ما يحملهم على المجادلة في آيات الله إلا الكبر على الذي جاءهم بها وليست مجادلتهم لدليل لاح لهم .
وقد أثبت لهم الكبر الباعث على المجادلة بطريق القصر لينفي - أن يكون داعيهم إلى المجادلة شيء آخر غير الكبر على وجه مؤكد ، فإن القصر تأكيد على تأكيد لما يتضمنه من إثبات الشيء بوجه مخصوص مؤكد ، ومن نفي ما عداه فتضمن جملتين .
وجملة ما هم ببالغيه يجوز أن تكون معترضة ، ويجوز أن تكون في موضع
[ ص: 174 ] الصفة لـ ( كبر ) ، وحقيقة البلوغ : الوصول ، قال تعالى
إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ويطلق على نوال الشيء وتحصيله مجازا مرسلا كما في قوله تعالى وما بلغوا معشار ما آتيناهم وهو هنا محمول على المعنى المجازي لا محالة ، أي ما هم ببالغي الكبر .
وإذ قد كان الكبر مثبتا حصوله في نفوسهم إثباتا مؤكدا بقوله
إن في صدورهم إلا كبر ، تعين أن نفي بلوغهم الكبر منصرف إلى حالات الكبر : فإما أن يراد نفي أهليتهم للكبر إذ هم أقل من أن يكون لهم الكبر كقوله تعالى
ليخرجن الأعز منه الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين أي لا عزة حقا لهم ، فالمعنى هنا : كبر زيف ; وإما أن يراد نفي نوالهم شيئا من آثار كبرهم مثل تحقير الذين يتكبرون عليهم مثل احتقار المتكبر عليهم ومخالفتهم إياهم فيما يدعونهم إليه فضلا عن الانتظام في سلك أتباعهم ، وإذلالهم ، وإفحام حجتهم ، فالمعنى : ما هم ببالغين مرادهم الذي يأملونه منك في نفوسهم الدالة عليه أقوالهم مثل قولهم
نتربص به ريب المنون وقولهم
لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ونحو ذلك من أقوالهم الكاشفة لآمالهم .
فتنكير ( كبر ) للتعظيم ، أي كبر شديد بتعدد أنواعه ، وتمكنه من نفوسهم ، فالضمير البارز في ببالغيه عائد إلى الكبر على وجه المجاز بعلاقة السببية أو المسببية ، والداعي إلى هذا المجاز طلب الإيجاز لأن تعليق نفي البلوغ باسم ذات الكبر يشمل جميع الأحوال التي يثيرها الكبر ، وهذا من مقاصد إسناد الأحكام إلى الذوات إن لم تقم قرينة على إرادة حالة مخصوصة ، كما في قوله تعالى
نحن قسمنا بينهم معيشتهم أي جميع أحوال معيشتهم . فشمل قوله ما هم ببالغيه عدم بلوغهم شيئا مما ينطوي عليه كبرهم ، فما بلغوا الفضل على غيرهم حتى يتكبروا ، ولا مطمع لهم في حصول آثار كبرهم ، كما قال تعالى
لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا .
وقد نفي أن يبلغوا مرادهم بصوغه في قالب الجملة الاسمية لإفادتها ثبات مدلولها ودوامه ، فالمعنى : أنهم محرومون من بلوغه حرمانا مستمرا ، فاشتمل تشويه حالهم إثباتا ونفيا على خصوصيات بلاغية كثيرة .
[ ص: 175 ] ومن المفسرين من جعل ماصدق الذين يجادلون في آيات الله هنا
اليهود ، وجعله في معنى قوله تعالى
أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ، وارتقى بذلك إلى القول بأن هذه الآية مدنية ألحقت بالسورة المكية كما تقدم في مقدمة تفسير السورة ، وأيدوا تفسيرهم هذا بآثار لو صحت لم تكن فيها دلالة على أكثر من صلوحية الآية لأن تضرب مثلا لكل فريق يجادلون في آيات الله بغير سلطان جدالا يدفعهم إليه الكبر .