صفحة جزء
ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين .

ثم هذه للتراخي الرتبي لا محالة لأن هذا القول يقال لهم قبل دخول النار ، بدليل أن مما وقع في آخر القول ادخلوا أبواب جهنم ، ودخول أبواب جهنم قبل السحب في حميمها والسجر في نارها . وهذا القيل ارتقاء في تقريعهم [ ص: 204 ] وإعلان خطل آرائهم بين أهل المحشر وهو أشد على النفس من ألم الجسم ، ولأن هذا القول مقدمة لتسليط العذاب عليهم لاشتماله على بيان سبب العذاب من عبادة الأصنام وازدهائهم في الأرض بكفرهم ومرحهم ، وهو أيضا ارتقاء في وصف أحوالهم الدالة على نكالهم إذ ارتقى من صفة جزائهم على إشراكهم وهو شيء غير مستغرب ترتبه على الشرك إلى وصف تحقيرهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها وذلك غريب من أحوالهم وأشد دلالة على بطلان إلهية أصنامهم وهو المقصد المهم من القوارع التي سلطت عليهم في هذه السورة . فموقع المعطوف بـ ثم هنا كموقع المعطوف بها في قول أبي نواس :


قل إن ساد ثم ساد أبوه قبله ثم ساد من قبل جده

من حيث كانت سيادة جده أرسخت له سيادة أبيه وأعقبت سيادة نفسه ، وهذا استعمال موجود بكثرة .

وصيغ قيل بصيغة المضي لأنه محقق الوقوع فكأنه وقع ومضى وكذلك فعل قالوا ضلوا .

والقائل لهم : ناطق بإذن الله . وأين للاستفهام عن مكان الشيء المجهول المكان ، والاستفهام هنا مستعمل في التنبيه على الغلط والفضيحة في الموقف فإنهم كانوا يزعمون أنهم يعبدون الأصنام ليكونوا شفعاء لهم من غضب الله فلما حق عليهم العذاب فلم يجدوا شفعاء ذكروا بما كانوا يزعمونه فقيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله ، فابتدروا بالجواب قبل انتهاء القول الذي قيل لهم ، ومعنى ضلوا غابوا كقوله " أاذا ضللنا في الأرض إنا لفي خلق جديد " أي غيبنا في التراب ، ثم عرض لهم فعلموا أن الأصنام لا تفيدهم . فأضربوا عن قولهم ضلوا عنا ، وقالوا بل لم نكن ندعو من قبل شيئا أي لم نكن في الدنيا ندعو شيئا يغني عنا ، فنفي دعاء شيء هنا راجع إلى نفي دعاء شيء يعتد به ، كما تقول : حسبت أن فلانا شيء فإذا هو ليس بشيء ، إن كنت خبرته فلم تر عنده خيرا . وفي الحديث سئل النبيء - صلى الله عليه وسلم - عن الكهان فقال [ ص: 205 ] ليسوا بشيء أي ليسوا بشيء معتد به فيما يقصدهم الناس لأجله ، وقال عباس بن مرداس :


وقد كنت في الحرب ذا تدراء     فلم أعط شيئا ولم أمنع

وتقدم عند قوله تعالى لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل في سورة العقود ، إذ ليس المعنى على إنكار أن يكونوا عبدوا شيئا لمنافاته لقولهم ضلوا عنا المقتضي الاعتراف الضمني بعبادتهم .

وفسر كثير من المفسرين قولهم بل لم نكن ندعو من قبل شيئا أنه إنكار لعبادة الأصنام بعد الاعتراف بها لاضطرابهم من الرعب فيكون من نحو قوله تعالى ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين .

ويجوز أن يكون لهم في ذلك الموقف مقالان ، وهذا كله قبل أن يحشروا في النار هم وأصنامهم فإنهم يكونون متماثلين حينئذ كما قال تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم .

وجملة كذلك يضل الله الكافرين تذييل معترض بين أجزاء القول الذي يقال لهم . ومعنى الإشارة تعجيب من ضلالهم ، أي مثل ضلالهم ذلك يضل الله الكافرين . والمراد بالكافرين : عموم الكافرين ، فليس هذا من الإظهار في مقام الإضمار .

والتشبيه في قوله كذلك يضل الله الكافرين يفيد تشبيه إضلال جميع الكافرين بإضلاله هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله ، فتكون جملة كذلك يضل الله الكافرين تذييلا ، أي مثل إضلال الذين يجادلون في آيات الله يضل الله جميع الكافرين ، فيكون إضلال هؤلاء الذين يجادلون مشبها به إضلال الكافرين كلهم ، والتشبيه كناية عن كون إضلال الذين يجادلون في آيات الله بلغ قوة نوعه بحيث ينظر به كل ما خفي من أصناف الضلال ، وهو كناية عن كون مجادلة هؤلاء في آيات الله أشد الكفر .

والتشبيه جار على أصله وهو إلحاق ناقص بكامل في وصف ولا يكون من قبيل [ ص: 206 ] وكذلك جعلناكم أمة وسطا ولا هو نظير قوله المتقدم كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون .

وقوله ذلكم بما كنتم تفرحون تكملة القيل الذي يقال لهم حين إذ الأغلال في أعناقهم . والإشارة إلى ما هم فيه من العذاب .

وما في الموضعين مصدرية ، أي ذلكم مسبب على فرحكم ومرحكم اللذين كانا لكم في الدنيا ، والأرض : مطلقة على الدنيا .

والفرح : المسرة ورضى الإنسان على أحواله ، فهو انفعال نفساني . والمرح ما يظهر على الفارح من الحركات في مشيه ونظره ومعاملته مع الناس وكلامه وتكبره فهو هيئة ظاهرية .

وبغير الحق يتنازعه كل من ( تفرحون وتمرحون ) أي تفرحون بما يسركم من الباطل وتزدهون بالباطل ، فمن آثار فرحهم بالباطل تطاولهم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ومن المرح بالباطل استهزاؤهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ، قال تعالى و وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين . فالفرح كلما جاء منهيا عنه في القرآن فالمراد به هذا الصنف منه ، كقوله تعالى إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين لا كل فرح فإن الله امتن على المؤمنين بالفرح في قوله ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .

وبين تفرحون وتمرحون الجناس المحرف .

وجملة ادخلوا أبواب جهنم يجوز أن تكون استئنافا بيانيا لأنهم لما سمعوا التقريع والتوبيخ وأيقنوا بانتفاء الشفيع ترقبوا ماذا سيؤمر به في حقهم فقيل لهم ادخلوا أبواب جهنم ، ويجوز أن تكون بدل اشتمال من جملة ذلكم بما كنتم تفرحون إلخ ، فإن مدلول اسم الإشارة العذاب المشاهد لهم وهو يشتمل على إدخالهم أبواب جهنم والخلود فيها .

ودخول الأبواب كناية عن الكون في جهنم لأن الأبواب إنما جعلت ليسلك منها إلى البيت ونحوه .

[ ص: 207 ] وخالدين حال مقدرة ، أي مقدرا خلودكم .

وفرع عليه فبئس مثوى المتكبرين ، والمخصوص بالذم محذوف لأنه يدل عليه ذكر جهنم أي فبئس مثوى المتكبرين جهنم ، ولم يتصل فعل بئس بتاء التأنيث لأن فاعله في الظاهر هو مثوى لأن العبرة بإسناد فعل الذم والمدح إلى الاسم المذكور بعدهما ، وأما اسم المخصوص فهو بمنزلة البيان بعد الإجمال فهو مبتدأ خبره محذوف أو خبر مبتدأ محذوف ولذلك عد باب نعم وبئس من طرق الإطناب .

والمثوى : محل الثواء ، والثواء : الإقامة الدائمة ، وأوثر لفظ مثوى دون ( مدخل ) المناسب لـ ( ادخلوا ) لأن المثوى أدل على الخلود فهو أولى بمساءتهم .

والمراد بالمتكبرين : المخاطبون ابتداء ؛ لأنهم جادلوا في آيات الله عن كبر في صدورهم كما قال تعالى إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ولأن تكبرهم من فرحهم .

وإنما عدل عن ضميرهم إلى الاسم الظاهر وهو المتكبرين للإشارة إلى أن من أسباب وقوعهم في النار تكبرهم على الرسل . وليكون لكل موصوف بالكبر حظ من استحقاق العقاب إذا لم يتب ولم تغلب حسناته على سيئاته إن كان من أهل الإيمان .

التالي السابق


الخدمات العلمية