فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله
بعد أن قرعتهم الحجة التي لا تترك للشك مسربا إلى النفوس بعدها في أن الله منفرد بالإلهية ؛ لأنه منفرد بإيجاد العوالم كلها . وكان ثبوت الوحدانية من شأنه أن يزيل الريبة في أن القرآن منزل من عند الله ؛ لأنهم ما كفروا به إلا لأجل إعلانه بنفي الشريك عن الله تعالى ، فلما استبان ذلك كان الشأن أن يفيئوا إلى تصديق الرسول والإيمان بالقرآن ، وأن يقلعوا عن إعراضهم المحكي عنهم بقوله في أول السورة
فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون إلخ ، فلذلك جعل استمرارهم على الإعراض بعد تلك الحجج أمرا مفروضا كما يفرض المحال ، فجيء في جانبه بحرف إن الذي الأصل فيه أن يقع في الموقع الذي لا جزم فيه بحصول الشرط كقوله تعالى
أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين في قراءة من قرأ بكسر همزة ( إن ) .
فمعنى
فإن أعرضوا إن استمروا على إعراضهم بعد ما هديتهم بالدلائل البينة وكابروا فيها ، فالفعل مستعمل في معنى الاستمرار كقوله
يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله .
والإنذار : التخويف ، وهو هنا تخويف بتوقع عقاب مثل عقاب الذين شابهوهم في الإعراض خشية أن يحل بهم ما حل بأولئك ، بناء على أن المعروف أن تجري أفعال الله على سنن واحد ، وليس هو وعيدا لأن
قريشا لم تصبهم صاعقة مثل صاعقة
عاد وثمود ، وإن كانوا قد ساووهما في التكذيب والإعراض عن الرسل وفي التعللات التي تعللوا بها من قولهم
لو شاء ربنا لأنزل ملائكة ، وأمهل الله
قريشا حتى آمن كثير منهم واستأصل كفارهم بعذاب خاص .
[ ص: 253 ] وحقيقة الصاعقة : نار تخرج مع البرق تحرق ما تصيبه ، وتقدم ذكرها في قوله تعالى
يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق في سورة البقرة . وتطلق على الحادثة المبيرة السريعة الإهلاك ، ولما أضيفت صاعقة هنا إلى
عاد وثمود ،
وعاد لم تهلكهم الصاعقة وإنما أهلكهم الريح
وثمود أهلكوا بالصاعقة فقد استعمل الصاعقة هنا في حقيقته ومجازه ، أو هو من عموم المجاوز والمقتضي لذلك على الاعتبارين قصد الإيجاز ، وليقع الإجمال ثم التفصيل بعد بقوله
فأما عاد إلى قوله
بما كانوا يكسبون .
وإذ ظرف للماضي ، والمعنى مثل صاعقتهم حين جاءتهم الرسل إلى آخر الآيات . روى
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق في سيرته
nindex.php?page=hadith&LINKID=2002309أن عتبة بن ربيعة كلم النبيء - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به من خلاف قومه فتلا عليهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - حم تنزيل من الرحمن الرحيم حتى بلغ فقل أنذرتكم صاعقة الآية ، فأمسك عتبة على فم النبيء - صلى الله عليه وسلم - وقال له : ناشدتك الله والرحم .
وضمير جاءتهم عائد إلى
عاد وثمود باعتبار عدد كل قبيلة منهما .
وجمع الرسل هنا من باب إطلاق صيغة الجمع على الاثنين مثل قوله تعالى
فقد صغت قلوبكما ، والقرينة واضحة وهو استعمال غير عزيز ، وإنما جاءهم رسولان
هود وصالح .
وقوله
من بين أيديهم ومن خلفهم تمثيل لحرص رسول كل منهم على هداهم بحيث لا يترك وسيلة يتوسل بها إلى إبلاغهم الدين إلا توسل بها . فمثل ذلك بالمجيء إلى كل منهم تارة من أمامه وتارة من خلفه لا يترك له جهة ، كما يفعل الحريص على تحصيل أمر أن يتطلبه ويعيد تطلبه ويستوعب مظان وجوده أو مظان سماعه ، وهذا التمثيل نظير الذي في قوله تعالى حكاية عن الشيطان
ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم .
وإنما اقتصر في هذه الآية على جهتين ولم تستوعب الجهات الأربع كما مثل حال الشيطان في وسوسته ؛ لأن المقصود هنا تمثيل الحرص فقط وقد حصل ، والمقصود
[ ص: 254 ] في الحكاية عن الشيطان تمثيل الحرص مع التلهف تحذيرا منه وإثارة لبغضه في نفوس الناس .
و أن لا تعبدوا إلا الله تفسير لجملة
جاءتهم الرسل لتضمن المجيء معنى الإبلاغ بقرينة كون فاعل المجيء متصفا بأنهم رسل ، فتكون أن تفسيرية لـ ( جاءتهم ) بهذا التأويل كقول الشاعر :
إن تحملا حاجة لي خف محملها تستوجبا منة عندي بها ويدا أن تقرآن على أسماء ويحكما
مني السلام وأن لا تشعرا أحدا
إذ فسر الحاجة بأن يقرأ السلام على أسماء ؛ لأنه أراد بالحاجة الرسالة ، وهذا جري على رأي
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري والمحققين من عدم اشتراط تقدم جملة فيها معنى القول دون حروفه بل الاكتفاء بتقدم ما أريد به معنى القول ولو لم يكن جملة خلافا لما أطال به صاحب مغني اللبيب من أبحاث لا يرضاها الأريب ، أو لما يتضمنه عنوان الرسل من إبلاغ رسالة .