صفحة جزء
ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون .

عطف على جملة " قل أينكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين " الآية ، عطف القصة على القصة فإن المقصود من ذكر خلق العوالم أنها دلائل على انفراد الله بالإلهية ، فلذلك أخبر هنا عن المذكورات في هذه الجملة بأنها من آيات الله انتقالا في أفانين الاستدلال فإنه انتقال من الاستدلال بذوات من مخلوقاته إلى الاستدلال بأحوال من أحوال تلك المخلوقات ، فابتدئ ببعض الأحوال السماوية وهي حال الليل والنهار ، وحال طلوع الشمس وطلوع القمر ، ثم ذكر بعده بعض الأحوال الأرضية بقوله ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة .

ويدل لهذا الانتقال أنه من أسلوب الغيبة من قوله فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة إلى قوله ولا تستوي الحسنة ولا السيئة إلى أسلوب خطابهم رجوعا إلى خطابهم الذي في قوله " أينكم لتكفرون بالذي خلق الأرض " .

والآيات : الدلائل ، وإضافتها إلى ضمير الله لأنها دليل على وحدانيته وعلى وجوده .

واختلاف الليل والنهار آية من آيات القدرة التي لا يفعلها غير الله تعالى ، فلا جرم كانت دليلا على انفراده بالصنع فهو منفرد بالإلهية . وتقدم الكلام على الليل والنهار عند قوله تعالى في سورة البقرة إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار .

والمراد بالشمس والقمر ابتداء هنا حركتهما المنتظمة المستمرة ، وأما خلقهما فقد علم من خلق السماوات والأرض كما تقدم آنفا في قوله [ ص: 299 ] فقضاهن سبع سماوات ، فإن الشمس إحدى السماوات السبع والقمر تابع للشمس ، ولم يذكر ما يدل على بعض أحوال الشمس والقمر مثل طلوع أو غروب أو فلك أو نحو ذلك ليكون صالحا للاستدلال بأحوالهما وهو المقصود الأول ، ولخلقهما تأكيد لما استفيد من قوله فقضاهن سبع سماوات توفيرا للمعاني .

ولما جرى الاعتبار بالشمس والقمر وكان في الناس أقوام عبدوا الشمس والقمر وهم الصابئة ومنبعهم من العراق من زمن إبراهيم عليه السلام ، وقد قص الله خبرهم في سورة الأنعام في قوله فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي الآيات ، ثم ظهر هذا الدين في سبأ ، عبدوا الشمس كما قصه الله في سورة النمل .

ولم أقف على أن العرب في زمن نزول القرآن كان منهم من يعبد الشمس والقمر ، ويظهر من كلام الزمخشري أنه لم يقف على ذلك لقوله هنا لعل ناسا منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر اهـ . ولكن وجود عبادة الشمس في اليمن أيام سبأ قبل أن يتهودوا يقتضي بقاء آثاره من عبادة الشمس في بعض بلاد العرب . وقد ذكر من أصنام العرب صنم اسمه شمس وبه سموا عبد شمس ، وكذلك جعلهم من أسماء الشمس الآلهة ، قالت مية بنت أم عتبة :


تروحنا من اللعباء عصرا فاعجلنا الآلهة أن تئوبا

وكان الصنم الذي اسمه شمس يعبده بنو تميم وضبة وتميم وعكل وأد . وكنت وقفت على أن بعض كنانة عبدوا القمر .

وفي تلخيص التفسير للكواشي وكان الناس يسجدون للشمس والقمر يزعمون أنهم يقصدون بذلك السجود للهكالصابئين فنهوا عن ذلك وأمروا أن يخصوه تعالى بالعبادة وليس فيه أن هؤلاء الناس من العرب ، على أن هدي القرآن لا يختص بالعرب بل شيوع دين الصابئة في البلاد المجاورة لهم كاف في التحذير من السجود للشمس والقمر .

[ ص: 300 ] وقد كان العرب يحسبون دين الإسلام دين الصابئة فكانوا يقولون لمن أسلم : صبأ ، وكانوا يصفون النبيء - صلى الله عليه وسلم - بالصابئ ، فإذا لم يكن النهي في قوله لا تسجدوا للشمس ولا للقمر نهي إقلاع بالنسبة للذين يسجدون للشمس والقمر ، فهو نهي تحذير لمن لم يسجد لهما أن لا يتبعوا من يعبدونهما .

ووقوع قوله واسجدوا لله الذي خلقهن بعد النهي عن السجود للشمس والقمر يفيد مفاد الحصر ؛ لأن النهي بمنزلة النفي ، ووقوع الإثبات بعده بمنزلة مقابلة النفي بالإيجاب ، فإنه بمنزلة النفي والاستثناء في إفادة الحصر كما تراه في قول السموأل أو عبد الملك الحارثي :


تسيل على حد الظبات نفوسنا     وليست على غير الظبات تسيل

فكأنه قيل : لا تسجدوا إلا لله ، أي دون الشمس والقمر .

فجملة لا تسجدوا للشمس إلى قوله تعبدون معترضة بين جملة ومن آياته الليل والنهار ، وبين جملة فإن استكبروا .

وفي هذه الآية موضع سجود من سجود التلاوة ، فقال مالك وأصحابه عدا ابن وهب : السجود عند قوله تعالى إن كنتم إياه تعبدون وهو قول علي بن أبي طالب وابن مسعود ، وروي عن الشافعي . وقال أبو حنيفة والشافعي في المشهور عنه وابن وهب : هي عند قوله وهم لا يسأمون ، وهو عن ابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب .

التالي السابق


الخدمات العلمية