شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه
انتقال من الامتنان بالنعم الجثمانية إلى الامتنان بالنعمة الروحية بطريق الإقبال على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين للتنويه بدين الإسلام وللتعريض بالكفار الذين أعرضوا عنه . فالجملة ابتدائية .
ومعنى ( شرع ) أوضح وبين لكم مسالك ما كلفكم به . وأصل ( شرع ) : جعل طريقا واسعة . وكثر إطلاقه على سن القوانين والأديان فسمي الدين شريعة . فـ ( شرع ) هنا مستعار للتبيين كما في قوله : أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله
[ ص: 50 ] وتقدم في قوله تعالى :
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا في سورة العقود .
والتعريف في ( الدين ) تعريف الجنس ، وهو يعم الأديان الإلهية السابقة . و ( من ) للتبعيض .
والتوصية : الأمر بشيء مع تحريض على إيقاعه والعمل به .
ومعنى كونه شرع للمسلمين من الدين ما وصى به
نوحا أن الإسلام دين مثل ما أمر به
نوحا وحضه عليه . فقوله :
ما وصى به نوحا مقدر فيه مضاف ، أي مثل ما وصى به
نوحا ، أو هو بتقدير كاف التشبيه على طريقة التشبيه البليغ مبالغة في شدة المماثلة حتى صار المثل كأنه عين مثله . وهذا تقدير شائع كقول
ورقة بن نوفل : ( هذا هو الناموس الذي أنزل على
عيسى ) .
والمراد : المماثلة في أصول الدين مما يجب لله تعالى من الصفات ، وفي أصول الشريعة من كليات التشريع ، وأعظمها توحيد الله ، ثم ما بعده من الكليات الخمس الضروريات ، ثم الحاجيات التي لا يستقيم نظام البشر بدونها ، فإن كل ما اشتملت عليه الأديان المذكورة من هذا النوع قد أودع مثله في دين الإسلام .
فالأديان السابقة كانت تأمر بالتوحيد ، والإيمان بالبعث والحياة الآخرة ، وتقوى الله بامتثال أمره واجتناب منهيه على العموم ، وبمكارم الأخلاق بحسب المعروف ، قال تعالى :
قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى . وتختلف في تفاصيل ذلك وتفاريعه .
ودين الإسلام لم يخل عن تلك الأصول وإن خالفها في التفاريع تضييقا وتوسيعا ، وامتازت هذه الشريعة بتعليل الأحكام ، وسد الذرائع ، والأمر بالنظر في الأدلة ، وبرفع الحرج ، وبالسماحة ، وبشدة الاتصال بالفطرة ، وقد بينت ذلك في كتابي مقاصد الشريعة الإسلامية .
أو المراد المماثلة فيما وقع عقبه بقوله : أن أقيموا الدين إلخ بناء على أن
[ ص: 51 ] تكون ( أن ) تفسيرية ، أي شرع لكم وجوب إقامة الدين الموحى به وعدم التفرق فيه كما سيأتي . وأيا ما كان فالمقصود أن الإسلام لا يخالف هذه الشرائع المسماة وأن اتباعه يأتي بما أتت به من خير الدنيا والآخرة .
والاقتصار على ذكر دين
نوح وإبراهيم وموسى وعيسى لأن
نوحا أول رسول أرسله الله إلى الناس ، فدينه هو أساس الديانات ، قال تعالى : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ولأن دين
إبراهيم هو أصل الحنيفية وانتشر بين العرب بدعوة
إسماعيل إليه فهو أشهر الأديان بين العرب ، وكانوا على أثارة منه في الحج والختان والقرى والفتوة . ودين
موسى هو أوسع الأديان السابقة في تشريع الأحكام ، وأما دين
عيسى فلأنه الدين الذي سبق دين الإسلام ولم يكن بينهما دين آخر ، وليتضمن التهيئة إلى دعوة
اليهود والنصارى إلى دين الإسلام .
وتعقيب ذكر دين
نوح بما أوحي إلى
محمد عليهما السلام للإشارة إلى أن دين الإسلام هو الخاتم للأديان ، فعطف على أول الأديان جمعا بين طرفي الأديان ، ثم ذكر بعدهما الأديان الثلاثة الأخر لأنها متوسطة بين الدينين المذكورين قبلها . وهذا نسج بديع من نظم الكلام ، ولولا هذا الاعتبار لكان ذكر الإسلام مبتدأ به كما في قوله :
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وقوله :
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح الآية في سورة الأحزاب .
وذكر في الكشاف في آية الأحزاب أن تقديم ذكر النبيء صلى الله عليه وسلم في التفصيل لبيان أفضليته لأن المقام هنالك لسرد من أخذ عليهم الميثاق ، وأما آية سورة الشورى فإنما أوردت في مقام وصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة فكأن الله قال : شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث به
نوحا في العهد القديم وبعث به
محمدا صلى الله عليه وسلم في العهد الحديث ، وبعث به من توسط بينهما .
فقوله : والذي أوحينا إليك هو ما سبق نزوله قبل هذه الآية من القرآن بما فيه من أحكام ، فعطفه على ما وصى به
نوحا لما بينه وبين ما وصى به
نوحا من المغايرة بزيادة التفصيل والتفريع . وذكره عقب ما وصى به
نوحا للنكتة التي تقدمت .
[ ص: 52 ] وفي قوله تعالى :
ما وصى به نوحا وقوله :
وما وصينا به إبراهيم ، جيء بالموصول ( ما ) ، وفي قوله : والذي أوحينا إليك جيء بالموصول ( الذي ) ، وقد يظهر في بادئ الرأي أنه مجرد تفنن بتجنب تكرير الكلمة ثلاث مرات متواليات ، وذلك كاف في هذا التخالف . وليس يبعد عندي أن يكون هذا الاختلاف لغرض معنوي ، وأنه فرق دقيق في استعمال الكلام البليغ وهو أن ( الذي ) وأخواته هي الأصل في الموصولات فهي موضوعة من أصل الوضع للدلالة على من يعين بحالة معروفة هي مضمون الصلة ، فـ ( الذي ) يدل على معروف عند المخاطب بصلته .
وأما ( ما ) الموصولة فأصلها اسم عام نكرة مبهمة محتاجة إلى صفة نحو قوله تعالى :
إن الله نعما يعظكم به عند
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري وجماعة . إذ قدروه : نعم شيئا يعظكم به . فـ ( ما ) نكرة تمييز بـ ( نعم ) وجملة يعظكم به صفة لتلك النكرة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه في قوله تعالى : هذا ما لدي عتيد المراد : هذا شيء لدي عتيد ، وأنشدوا :
لما نافع يسعى اللبيب فلا تكن لشيء بعيد نفعه الدهر ساعيا
أي لشيء نافع ، فقد جاءت صفتها اسما مفردا بقرينة مقابلته بقوله : لشيء بعيد نفعه ، ثم يعرض لـ ( ما ) التعريف بكثرة استعمالها نكرة موصوفة بجملة فتعرفت بصفتها وأشبهت اسم الموصول في ملازمة الجملة بعدها ، ولذلك كثر استعمال ( ما ) موصولة في غير العقلاء ، فيكون إيثار ما وصى به
نوحا وما وصينا به
إبراهيم وموسى وعيسى بحرف ( ما ) لمناسبة أنها شرائع بعد العهد بها فلم تكن معهودة عند المخاطبين إلا إجمالا فكانت نكرات لا تتميز إلا بصفاتها ، وأما إيثار الموحى به إلى النبيء صلى الله عليه وسلم باسم ( الذي ) فلأنه شرع متداول فيهم معروف عندهم . فالتقدير : شرع لكم شيئا وصى به
نوحا وشيئا وصى به
إبراهيم وموسى وعيسى ، والشيء الموحى به إليك . ولعل هذا من نكت الإعجاز المغفول عنها .
وفي العدول من الغيبة إلى التكلم في قوله : والذي أوحينا إليك بعد قوله : شرع لكم التفات .
وذكر في جانب الشرائع الأربع السابقة فعل ( وصى ) وفي جانب شريعة
[ ص: 53 ] محمد صلى الله عليه وسلم فعل الإيحاء لأن الشرائع التي سبقت شريعة الإسلام كانت شرائع موقتة مقدرا ورود شريعة بعدها فكان العمل بها كالعمل الذي يقوم به مؤتمن على شيء حتى يأتي صاحبه ، وليقع الاتصال بين فعل أوحينا إليك وبين قوله في صدر السورة
كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم .
و ( أن ) في قوله : أن أقيموا الدين يجوز أن تكون مصدرية ، فإنها قد تدخل على الجملة الفعلية التي فعلها متصرف ، والمصدر الحاصل منها في موضع بدل الاشتمال من ( ما ) الموصولة الأولى أو الأخيرة . وإذا كان بدلا من إحداهما كان في معنى البدل من جميع أخواتهما لأنها سواء في المفعولية لفعل ( شرع ) بواسطة العطف فيكون الأمر بإقامة الدين والنهي عن التفرق فيه مما اشتملت عليه وصاية الأديان .
ويجوز أن تكون تفسيرية لمعنى وصى لأنه يتضمن معنى القول دون حروفه . فالمعنى : أن إقامة الدين واجتماع الكلمة عليه أوصى الله بها كل رسول من الرسل الذين سماهم . وهذا الوجه يقتضي أن ما حكي شرعه في الأديان السابقة هو هذا المعنى وهو إقامة الدين المشروع كما هو ، والإقامة مجملة يفسرها ما في كل دين من الفروع .
وإقامة الشيء : جعله قائما ، وهي استعارة للحرص على العمل به كقوله : ويقيمون الصلاة ، وقد تقدم في سورة البقرة .
وضمير ( أقيموا ) مراد به : أمم أولئك الرسل ولم يسبق لهم ذكر في اللفظ لكن دل على تقديرهم ما في فعل ( وصى ) من معنى التبليغ .
وأعقب الأمر بإقامة الدين بالنهي عن
التفرق في الدين .
والتفرق : ضد التجمع ، وأصله : تباعد الذوات ، أي اتساع المسافة بينها ويستعار كثيرا لقوة الاختلاف في الأحوال والآراء كما هنا ، وهو يشمل التفرق بين الأمة بالإيمان بالرسول ، والكفر به ، أي لا تختلفوا على أنبيائكم . ويشمل التفرق بين الذين آمنوا بأن يكونوا نحلا وأحزابا ، وذلك اختلاف الأمة في أمور دينها ، أي في
[ ص: 54 ] أصوله وقواعده ومقاصده ، فإن الاختلاف في الأصول يفضي إلى تعطيل بعضها فينخرم بعض أساس الدين .
والمراد : ولا تتفرقوا في إقامته بأن ينشط بعضهم لإقامته ويتخاذل البعض ، إذ بدون الاتفاق على إقامة الدين يضطرب أمره . ووجه ذلك أن تأثير النفوس إذا اتفقت يتوارد على قصد واحد فيقوى ذلك التأثير ويسرع في حصول الأثر إذ يصير كل فرد من الأمة معينا للآخر فيسهل مقصدهم من إقامة دينهم . أما إذا حصل التفرق والاختلاف فذلك مفض إلى ضياع أمور الدين في خلال ذلك الاختلاف ، ثم هو لا يلبث أن يلقي بالأمة إلى العداوة بينها وقد يجرهم إلى أن يتربص بعضهم ببعض الدوائر ، ولذلك قال الله تعالى : ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم .
أما الاختلاف في فروعه بحسب استنباط أهل العلم بالدين فذلك من التفقه الوارد فيه قول النبيء صلى الله عليه وسلم من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين .