[ ص: 78 ] ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير
جملة
ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا بيان لجملة
وإن الظالمين لهم عذاب أليم ، بين حال هذا العذاب ببيان حال أصحابه حين توقع حلوله ، وكفى بذلك منبئا عن هوله .
والخطاب بـ ( ترى ) لغير معين فيعم كل من تمكن منه الرؤية يومئذ كقوله :
وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل . والمقصود استحضار صورة حال الظالمين يوم القيامة في ذهن المخاطب .
والإشفاق : توقع الشيء المضر وهو ضد التمني .
و ( ما كسبوا ) هو أعمالهم السيئة . والمراد : جزاؤها بقرينة المقام .
وجملة : وهو واقع بهم . في موضع الحال ، أي مشفقين إشفاقا يقارب اليأس وهو أشد الإشفاق حين يعلمون أن المشفق منه لا ينجي منه حذر ، لأن الإشفاق إذا حصل قبل اقتراب المشفق منه قد يحاول المشفق وسائل التخلص منه ، فأما إذا وقع العذاب فقد حال دون التخلص حائله . والمعنى : مشفقين من عقاب أعمالهم في حال نزول العقاب بهم . وليس المعنى : أنهم مشفقون في الدنيا من أعمالهم السيئة لأنهم لا يدينون بذلك ، فما بني على ذلك الاحتمال من التفسير ليس بينا .
والباء في قوله ( واقع بهم ) للاستعلاء ، كقول
غاوي السلمي :
أرب يبول الثعلبان برأسه
وهذا الاستعمال قريب من معنى الإلصاق المجازي .
وضمير ( هو واقع ) عائد على ( ما كسبوا ) باعتبار تقدير مضاف ، أي
[ ص: 79 ] جزاء ما كسبوا ، أي في حال أن الجزاء واقع عليهم .
وجملة
والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات حال من ( الظالمين ) ، والواو واو الحال ، أي ترى الظالمين في إشفاق في حال أن الذين آمنوا يطمئنون في روضات الجنات ، وفي هذه الحال دلالة على أن الذين آمنوا قد استقروا في الروضات من قبل عرض الظالمين على الحساب وإشفاقهم من تبعاته . وهذا من تضاد شأني الفريقين في الآخرة على عكسه بما كانوا عليه في الدنيا المقدم في قوله :
يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقين منها ، أي فاليوم انقلب إشفاق المؤمنين اطمئنانا واطمئنان المشركين إشفاقا ، وشتان بين الاطمئنانين والإشفاقين ، وبهذه المضادة في الحالتين وأسبابهما صح اعتبار كينونة الذين آمنوا في الجنة ، حالا من الظالمين .
والروضات : جمع روضة ، وهي اسم لمجموع ماء وشجر حاف به وخضرة حوله .
وجملة
لهم ما يشاءون عند ربهم خبر ثان عن الذين آمنوا ، و ( عند ) ظرف متعلق بالكون الذي تعلق به الجار والمجرور في : لهم ما يشاءون .
والعندية تشريف لمعنى الاختصاص الذي أفادته اللام في قوله ( لهم ) وعناية بما يعطونه من رغبة . والمعنى : ما يشاءونه حق لهم محفوظ عند ربهم . ولا ينبغي جعل ( عند ) متعلقا بفعل ( يشاءون ) لأن ( عند ) حينئذ تكون ظرفا لمشيئتهم ، أي مشيئة منهم متوجهة إلى ربهم ، فتؤول المشيئة إلى معنى الطلب أن يعطيهم ما يطلبون فيفوت قصد التشريف والعناية .
ولك أن تجعل ( عند ربهم ) خبرا ثالثا عن الذين آمنوا ، أي هم عند ربهم ، أي في ضيافته وقراه ، كما قال تعالى :
إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، ويكون ترتيب الأخبار الثلاثة جاريا على نمط الارتقاء من الحسن إلى الأحسن بأن أخبر عنهم بأنهم نزلوا في أحسن منزل ، ثم أحضر لهم ما يشتهون ، ثم ارتقى إلى ما هو أعظم وهو كونهم عند ربهم على حد قوله تعالى :
ورضوان من الله أكبر . ومن لطائف هذا الوجه أنه جاء على الترتيب المعهود
[ ص: 80 ] في الحصول في الخارج فإن الضيف أو الوافد ينزل أول قدومه في منزل إكرام ثم يحضر إليه القرى ثم يخالطه رب المنزل ويقترب منه .
وجملة
ذلك هو الفضل الكبير تذييل . والإشارة إلى مضمون قوله :
في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم بتأويل : ذلك المذكور .
وجيء باسم إشارة البعيد استعارة لكون المشار إليه بعيد المكانة بعد ارتفاع مجازي وهو الشرف .
و الفضل يجوز أن يكون مصدرا بمعنى الشرف والتفوق على الغير فيكون في معنى فضلهم ، ويجوز أن يكون اسما لما يتفضل به من عطاء فيكون في معنى : ذلك فضلنا عليهم . وفي هذا الأخير دلالة على أن ثواب الأعمال فضل من الله لأن طاعة العباد واجبة عليهم فإذا أدوها فقد فعلوا ما لا يسعهم إلا فعله فلو لم يثابوا على ذلك لم يكن عدم إثابتهم ظلما .
وضمير الفصل يفيد قصرا ادعائيا للمبالغة في أعظمية الفضل ، و ( الفضل ) يصلح لأن يعتبر كالمضاف إلى المفعول ، أي فضل الله عليهم ، وأن يعتبر كالمضاف إلى الفاعل فضلهم ، أي شرفهم وبركتهم فيؤول معنى القصر إلى أن الفضل الذي حصل للذين آمنوا وعملوا الصالحات أكبر فضل .