حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ( حتى ) ابتدائية ، وهي تفيد التسبب الذي هو غاية مجازية . فاستعمال ( حتى ) فيه استعارة تبعية .
وليست في الآية دلالة على دوام الصد عن السبيل وحسبان الآخرين الاهتداء إلى فناء القرينين ، إذ قد يؤمن الكافر فينقطع الصد والحسبان فلا تغتر بتوهم من يزعمون أن الغاية الحقيقية لا تفارق ( حتى ) في جميع استعمالاتها .
وقرأ
نافع وابن كثير وأبو بكر عن
عاصم وأبو جعفر " جاءانا " بألف ضمير المثنى عائدا على من يعش عن ذكر الرحمن وقرينه ، أي شيطانه ، وأفرد ضمير " قال " لرجوعه إلى من يعش عن ذكر الرحمن خاصة ، أي قال الكافر متندما على ما فرط من اتباعه إياه وائتماره بأمره .
[ ص: 213 ] وقرأ الجمهور جاءنا بصيغة المفرد والضمير المستتر في " قال " عائد إلى " من يعش عن ذكر الرحمن " ، أي قال أحدهما وهو الذي يعشو . فالمعنى على القراءتين واحد لأن قراءة التثنية صريحة في مجيء الشيطان مع قرينه الكافر وأن المتندم هو الكافر ، والقراءة بالإفراد متضمنة مجيء الشيطان من قوله
يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين إذ علم أن شيطانه القرين حاضر من خطاب الآخر إياه بقوله وبينك .
وحرف يا أصله للنداء ، ويستعمل للتلهف كثيرا كما في قوله يا حسرة وهو هنا للتلهف والتندم .
والمشرقان : المشرق والمغرب ، غلب اسم المشرق ؛ لأنه أكثر خطورا بالأذهان لتشوف النفوس إلى إشراق الشمس بعد الإظلام .
والمراد بالمشرق والمغرب : إما مكان شروق الشمس وغروبها في الأفق ، وإما الجهة من الأرض التي تبدو الشمس منها عند شروقها وتغيب منها عند غروبها فيما يلوح لطائفة من سكان الأرض . وعلى الاحتمالين فهو مثل لشدة البعد .
وأضيف " بعد " إلى المشرقين بالتثنية بتقدير : " بعد " لهما ، أي مختص بهما بتأويل البعد بالتباعد وهو إيجاز بديع حصل من صيغة التغليب ومن الإضافة . ومساواته أن يقال بعد المشرق من المغرب والمغرب من المشرق فنابت كلمة المشرقين عن ست كلمات .
وقوله " فبئس القرين " بعد أن تمنى مفارقته فرع عليه ذما ، فالكافر يذم شيطانه الذي كان قرينا ، ويعرض بذلك للتفصي من المؤاخذة ، وإلقاء التبعة على الشيطان الذي أضله .
والمقصود من حكاية هذا تفظيع عواقب هذه المقارنة التي كانت شغف المتقارنين ، وكذلك شأن كل مقارنة على عمل سيء العاقبة ، وهذا من قبل قوله تعالى
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين .
[ ص: 214 ] والمقصود تحذير الناس من قرين السوء وذم الشياطين ليعافهم الناس كقوله
إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا .