ومما رزقناهم ينفقون
صلة ثالثة في وصف المتقين مما يحقق معنى التقوى وصدق الإيمان من بذل عزيز على النفس في مرضاة الله ; لأن الإيمان لما كان مقره القلب ومترجمه اللسان كان محتاجا إلى دلائل صدق صاحبه وهي عظائم الأعمال ، من ذلك التزام آثاره في الغيبة الدالة عليه "
الذين يؤمنون بالغيب " ومن ذلك
ملازمة فعل الصلوات لأنها دليل على تذكر المؤمن من آمن به . ومن ذلك
السخاء ببذل المال للفقراء امتثالا لأمر الله بذلك .
والرزق ما يناله الإنسان من موجودات هذا العالم التي يسد بها ضروراته وحاجاته وينال بها ملائمه ، فيطلق على كل ما يحصل به سد الحاجة في الحياة من الأطعمة والأنعام والحيوان والشجر المثمر والثياب وما يقتنى به ذلك من النقدين ، قال تعالى
وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه . أي مما تركه الميت وقال
الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وقال في قصة
قارون :
وآتيناه من الكنوز إلى قوله
[ ص: 235 ] ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر مرادا بالرزق كنوز
قارون وقال
ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض وأشهر استعماله بحسب ما رأيت من كلام العرب وموارد القرآن أنه ما يحصل من ذلك للإنسان ، وأما إطلاقه على ما يتناوله الحيوان من المرعى والماء فهو على المجاز ، كما في قوله تعالى
وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها وقوله
وجد عندها رزقا وقوله
لا يأتيكما طعام ترزقانه والرزق شرعا عند أهل السنة كالرزق لغة إذ الأصل عدم النقل إلا لدليل ، فيصدق اسم الرزق على الحلال والحرام لأن صفة الحل والحرمة غير ملتفت إليها هنا فبيان الحلال من الحرام له مواقع أخرى ولا يقبل الله إلا طيبا وذلك يختلف باختلاف أحوال التشريع مثل الخمر والتجارة فيها قبل تحريمها ، بل المقصود أنهم ينفقون مما في أيديهم .
وخالفت
المعتزلة في ذلك في جملة فروع مسألة خلق المفاسد والشرور وتقديرهما ، ومسألة الرزق من المسائل التي جرت فيها المناظرة بين
الأشاعرة والمعتزلة كمسألة الآجال ، ومسألة السعر ، وتمسك
المعتزلة في
مسألة الرزق بأدلة لا تنتج المطلوب .
والإنفاق إعطاء الرزق فيما يعود بالمنفعة على النفس والأهل والعيال ومن يرغب في صلته أو التقرب لله بالنفع له من طعام أو لباس . وأريد به هنا بثه في نفع الفقراء وأهل الحاجة وتسديد نوائب المسلمين بقرينة المدح واقترانه بالإيمان والصلاة فلا شك أنه هنا خصلة من خصال الإيمان الكامل ، وما هي إلا الإنفاق في سبيل الخير والمصالح العامة إذ لا يمدح أحد بإنفاقه على نفسه وعياله إذ ذلك مما تدعو إليه الجبلة فلا يعتني الدين بالتحريض عليه; فمن الإنفاق ما هو واجب وهو حق على صاحب الرزق ، للقرابة وللمحاويج من الأمة ونوائب الأمة كتجهيز الجيوش والزكاة ، وبعضه محدد وبعضه تفرضه المصلحة الشرعية الضرورية أو الحاجة وذلك مفصل في تضاعيف الأحكام الشرعية في كتب الفقه ، ومن الإنفاق تطوع وهو ما فيه نفع من دعا الدين إلى نفعه . وفي إسناده فعل رزقنا إلى ضمير الله تعالى وجعل مفعوله الذين يؤمنون تنبيه على أن ما يصير الرزق بسببه رزقا لصاحبه هو حق خاص له خوله الله إياه بحكم الشريعة على حسب الأسباب والوسائل التي يتقرر بها ملك الناس للأموال والأرزاق ، وهو الوسائل المعتبرة في الشريعة التي اقتضت استحقاق أصحابها واستئثارهم بها بسبب الجهد مما عمله المرء بقوة بدنه التي لا مرية في أنها حقه مثل انتزاع
[ ص: 236 ] الماء واحتطاب الحطب والصيد وجني الثمار والتقاط ما لا ملك لأحد عليه ولا هو كائن في ملك أحد ، ومثل خدمته بقوته من حمل ثقل ومشي لقضاء شؤون من يؤجره وانحباس للحراسة ، أو كان مما يصنع أشياء من مواد يملكها وله حق الانتفاع بها كالخبز والنسج والتجر وتطريق الحديد وتركيب الأطعمة وتصوير الآنية من طين الفخار ، أو كان مما أنتجه مثل الغرس والزرع والتوليد ، أو مما ابتكره بعقله مثل التعليم والاختراع والتأليف والطب والمحاماة والقضاء ونحو ذلك من الوظائف والأعمال التي لنفع العامة أو الخاصة ، أو مما أعطاه إياه مالك رزق من هبات وهدايا ووصايا ، أو أذن بالتصرف كإحياء الموات ، أو كان مما ناله بالتعارض كالبيوع والإجارات والأكرية والشركات والمغارسة ، أو مما صار إليه من مال انعدم صاحبه بكونه أحق الناس به كالإرث .
وتملك اللقطة بعد التعريف المشروط ، وحق الخمس في الركاز . فهذه وأمثالها مما شمله قول الله تعالى
ومما رزقناهم وليس لأحد ولا لمجموع الناس حق فيما جعله الله رزق الواحد منهم لأنه لا حق لأحد في مال لم يسع لاكتسابه بوسائله وقد جاءت
هند بنت عتبة زوج
أبي سفيان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت إن
أبا سفيان رجل مسيك فهل أنفق من الذي له عيالنا فقال لها لا إلا بالمعروف أي إلا ما هو معروف أنه تتصرف فيه الزوجة مما في بيتها مما وضعه الزوج في بيته لذلك دون مسارقة ولا خلسة .
وتقديم المجرور المعمول على عامله وهو ينفقون لمجرد الاهتمام بالرزق في عرف الناس فيكون في التقديم إيذان بأنهم ينفقون مع ما للرزق من المعزة على النفس كقوله تعالى ويطعمون الطعام على حبه مع رعي فواصل الآيات على حرف النون ، وفي الإتيان بمن التي هي للتبعيض إيماء إلى كون الإنفاق المطلوب شرعا هو إنفاق بعض المال لأن الشريعة لم تكلف الناس حرجا ، وهذا البعض يقل ويتوفر بحسب أحوال المنفقين . فالواجب منه ما قدرت الشريعة نصبه ومقاديره من الزكاة وإنفاق الأزواج والأبناء والعبيد ، وما زاد على الواجب لا ينضبط تحديده وما زاد فهو خير ، ولم يشرع الإسلام وجوب تسليم المسلم ما ارتزقه واكتسبه إلى يد غيره .
وإنما اختير ذكر هذه الصفات لهم دون غيرها لأنها أول ما شرع من الإسلام فكانت شعار المسلمين وهي الإيمان الكامل وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فإنهما أقدم المشروعات وهما أختان في كثير من آيات القرآن ، ولأن هذه الصفات
[ ص: 237 ] هي دلائل إخلاص الإيمان لأن الإيمان في حال الغيبة عن المؤمنين وحال خويصة النفس أدل على اليقين والإخلاص حين ينتفي الخوف والطمع إن كان المراد ما غاب ، أو لأن الإيمان بما لا يصل إليه الحس أدل دليل على قوة اليقين حتى أنه يتلقى من الشارع ما لا قبل للرأي فيه وشأن النفوس أن تنبو عن الإيمان به لأنها تميل إلى المحسوس فالإيمان به على علاته دليل قوة اليمين بالمخبر وهو الرسول إن كان المراد من الغيب ما قابل الشهادة ، ولأن الصلاة كلفة بدنية في أوقات لا يتذكرها مقيمها أي محسن أدائها إلا الذي امتلأ قلبه بذكر الله تعالى على ما فيها من الخضوع وإظهار العبودية ، ولأن الزكاة أداء المال وقد علم شح النفوس قال تعالى
وإذا مسه الخير منوعا ولأن المؤمنين بعد الشرك كانوا محرومين منها في حال الشرك بخلاف أهل الكتاب فكان لذكرها تذكير بنعمة الإسلام .